أنا والكتاب

مشاهدات



ضرغام الدباغ


كانت لولادتي في أسرة متعلمة أثرها الكبير في نشأتي وميلي للقراءة فوالدي لم يكن متعلماً فحسب بل وكان مثقفاً صحيح أن مكتبته الشخصية لم تكن عملاقة لأن الكثير من الكتب كانت تتسرب منها ليقرأها الأولاد والبنات (أنا وأخوتي) ولم تكن لتبقى له سوى الكتب القانونية على الأرجح . ورغم أن جدي لوالدي وهو من مواليد القرن التاسع عشر( أعتقد بين 1870 ــ 1880 ) إلا أنه كان يقرأ ويكتب وكنت أشاهده وهو شيخ طاعن في السن ورغم ذلك لا تفوته قراءة الصحف اليومية بالطبع كان القرآن الكريم دائماً على مقربة منه . ووالدتي كانت متعلمة أيضاً بل وكانت تحسن الإنكليزية ومثقفة وهناك أمور لم نكن نفهمها ونحن صغار ولم ندركها إلا فيما بعد ومن ذلك مثلاً ففي نهاية الاربعينات حرص والدي على شراء (الحاكي) او ما كان يطلق عليه بالغرامفون ذا الماركة الشهيرة الكلب يسمع البوق (His Masters Voice) وكان يقتني الاسطوانات مما كان دارجأ في تلك الفترة ولكني أذكر أن الوالد رحمة الله عليه كان من المعجبين بفيروز منذ أول سطوع نجمها في أواسط الخمسينات . 

 

وفي جو من هذا النوع بدأت القراءة مبكراً وربما في الصف الثالث الابتدائي أو الرابع وكانت بداية قراءتي للروايات والكتب الكبيرة مع روايات جرجي زيدان " تاريخ العرب والإسلام " وكان لها الدور الأكبر في تحسين لغتنا وثقافتنا ومنها انطلقنا نقرأ بكثرة ودون توقف كل ما يقع بين أيدينا (أنا وأخوتي) ولحسن الحظ كانت تقع بين أيدينا أعمال لطيفة بحكم ثقافة الوالد والوالدة رحمة الله عليهما وأذكر أول رواية طويلة قرأتها كانت "رسول القيصر " إيفان تورجينف ولم أكن إلا في الرابع أو الخامس الأبتدائي . وكان وفاة الوالدة المبكر رحمة الله عليها (وعمرها 36 عاماً) أثره على نشأتنا لم يكن سلبيا على أية حال بل ضاعف فينا الهمة للدراسة والتعلم وتكوين أنفسنا وفي المقدمة الميل الجارف لمصادر الثقافة من أدب وموسيقى وسينما والرسم فكنا صغاراً ننفق نقودنا على هذه الأشياء حتى صار لكل منا مكتبته الصغيرة وتدريجياً بدأ كل منا يشكل مزتجه الثقافي الخاص . كان لنا أبن خال (هلال ناجي) هو أكبر منا سناً كان محامياً شهيراً وشاعراً وأديباً صار رئيساً لأتحاد الأدباء والكتاب العراقيين لمدة خمسة عشر عاماً كان يزورنا ويجلب لنا أحياناً ما نفضل من هدايا ... الكتب . وذات مرة (1956) زارنا في الموصل وجلب معه كتاب " لمن تقرع الأجراس " لأرنست همنغوي وتأثرنا بها وبأحداثها السياسية والإنسانية كثيراً وأذكر أن همنغواي أو الناشر ولست متاكداً وضع في الصفحة الأولى القصيدة الرائعة للشاعر البريطاني جون دن لمن تقرع الأجراس . سألت هلال بسذاجة  الصبي ... كيف يصبح المرء كاتباً ... فضحك وقال : أنظر .. أقرأ كثيراً ثم أكتب ثم مزق ما كتبت ثم عد وأقرأ أكثر بعدها أكتب ومزق ما كتبت ثم أقرأ بعد أكثر ومزق ما كتبت ... فضحكت أنا هذه المرة وحسبت أنه يمزح معي ليس إلا ... ولكنه قال لي ... أفعل هكذا وستصبح دون أن تشعر ذات يوم كاتباً . وحقاً تحقق ما قاله هلال ناجي رحمة الله عليه . قلما يعرف القراء أن الشاعر والكاتب المسرحي الألماني المشهور بيرتولد بريشت كان كاتباً مرموقاً أيضاً ولطالما كتب بحوثاً ومقالات لها قيمتها العلمية والفنية . بعض من هذه المقالات التي تلج في عالم الفن والسياسة كتبها بريشت في فترات متقطعة في ثلاثينات القرن المنصرم ضمها في كتاب : حول الفن والسياسة (Über Kunst und Politik) والبحوث التي تضمنها هذا الكتاب شيقة ومهمة أخترنا لقرائنا هذا البحث الهام وهو بعنوان (Fünf Schwierigkeiten beim Schreiben der Wahrheit)، خمسة صعوبات عند كتابة الحقيقة وكنت قد قرأت هذا الكتاب خلال دراستي الجامعية العليا في ألمانيا وأقتبست منه مقاطع ضمنتها في دفاعي والذي أجد من الضروري أن يطلع كتابنا عليه . وبريشت هنا في هذه المقالة يمزج بين وظيفته ككاتب سياسي وكمناضل بل هو يضع على كاهل الكتاب السياسيين والفنانين والأدباء الذين ينحازون لقضايا الوطن مهمة مقدسة لا ينبغي أن يتملص من هذه الفئة الطليعية من الشعب فيقول له بصراحة تامة : قف مع شعبك وإلا فأنت مع الجلاد وكان بريشت قد كتب هذا البحث في الثلاثينات (1935) أبان أشتداد النضال داخل ألمانيا ضد النازية وعلى الأغلب لم يكن منتمياً لأي حزب سياسي من أحزاب المعارضة وهذا يمنح موقفه الثوري مصداقية أكبر تحدى بريشت نظاماً كان يعد بحملات دموية داخل ألمانيا ويخطط لأكثر دموية في أوربا والعالم .  

 

دولة كانت تعد للحرب بألآف الطائرات والدبابات وبملايين الجند المدججين بالسلاح حتى الأسنان نظام يريد فرض إرادته بقوة السلاح كل هذه الضجة الكبرى والضجيج ولهيب يستعر مقابل كل هذا .. رفع الكاتب والأديب بريشت قلمه .... قلمه فحسب . في حسابات تلك الأيام الصعبة يعتبر عمل الأديب الطليعي جنونياً لا محالة ولكن بالحسابات اللاحقة وبحسابات بسيطة ودونما كثير ذكاء نقر أن عمله كان قمة في الذكاء ليس لأنه ناصب العداء معسكراً فولاذياً تسيل الدماء من جوانبه بل لأنه أختار الحق والحق سينتصر وتأخر مجيئه فلكي تغرب مرحلة وتأتي مرحلة أخرى هناك استحقاقات مادية يجب أن تكتمل حلقاتها ... وهناك ضحايا حتماً وهناك أبرياء سيسحقون ولكن كيف سنصدر إدانتنا جميعاً بصوت واحد وعال ... للمجرمين .. للقتلة .. إدانة جماعية وتاريخية إلا إذا خضنا غمار المرحلة الرهيبة ودفعنا استحقاقاتها .. لابد أن يحدث هذا التدمير لتنشأ وتتكون حركة مضادة .. كيف يمكن أن تمسح النازية بكل قوتها ما يكن هناك متملقون قتلة، وضحايا وعمود تراكم لابد أن يمتلئ حتى آخر قطرة منه فيطلع الجديد النظيف حتى يندحر الظلام إلى الأبد .. لا يستطيع الطليعي أن يتبرأ من ضميره لا يستطيع أن يتنكر للأيدي التي رفعته وعن مئات بل ألآف الرموز المادية والحسية ويشبع حين يتغدى ويتخم عندما يتعشى ويتجشأ ويلف رأسه وينام ... هكذا غير مبال بالعمليات التي تدور من حواليه وصخبها يصم الآذان .. الفنان أو الأديب والمثقف هو إنسان طليعي وتقدمي بالضرورة الطليعي هو منطقياً مع العملية الصاعدة مع المسيرة المتقدمة إلى الأمام تشق عباب بحر الظلمات بقلمه بريشته بأزميله هو مع المحرومين والمظلومين وليس من المعقول أن يدافع عمن بيد سوط أو سلاح يهرق به دماء الآخرين ويبدد أحلامهم في الحياة .. لابد له أن يتضامن مع صيحات العذاب لابد له أن ينفعل مع بكاء الأطفال .. لابد ... وإلا فهو فاقد لمشاعره فهو ليس إذن بإنسان طليعي بل هو ربما آداة بيد القوى الغاشمة .   


الأديب / الكاتب حين ينحاز إلى المظلومين والمقهورين ويكون واحداً منهم كمثقف طليعي أتخذ موقفه هذا بقرار وجده بديهياً لأنه لم يصله دفعة واحدة بل عبر تثقيف ذاتي طويل المدى ولمسيرة طويلة المدى ولكن بريشت ينظم رفضه ويهندس انتفاضته الداخلية لكي تكون ناجحة خارجياً ينصح كا كاتب طليعي أكتب اليوم وأكتب غداً وأكتب كل يوم ولكي تكتب كل يوم فإنك لن تستطيع أن تقول كل ما عندك دفعة واحدة وإن فعلت ذلك فماذا ستفعل في الأيام والمراجل المقبلة ثم أنك ستثير انتباه حولك، لذلك فإنك لن تستطيع أن تحول مجاميع بشرية هائلة إلا عندما تعلم ماذا تكتب وكيف تكتب ولمن تكتب ... الكاتب الاديب الطليعي يرى صعوبات في الكتابة الموجهة ... بالطبع ولكنه ينصح الكتاب ... أن ينتبهوا لمتاعب الكتابة هي حرب ولابد أن تكون لك قواعد .. وأخيراً فالكتابة هي عمل نضالي وقد تنطوي على مخاطر .. عليك أن تتقبلها .. من أجل القيم ومن أجل من تكتب لهم .. أمض في طريقك لا تخف وتقبل ما ينجم عن ذلك من مخاطر بما في ذلك الخطر على حياتك فما أروع من يموت الإنسان من أجل رأيه ومن أجل الكلمة ...! تقدم .. أكتب لا تخف .. أشهر بوجه الظلام شمعة ..!

تعليقات

أحدث أقدم