أفكار خلدونية في الاجتماع السياسي

مشاهدات




ضرغام الدباغ


أدعو جميع القراء إلى دراسة (وليس مطالعة) الأثر الفكري العظيم " مقدمة أبن خلدون " الذي ما يزال يثير الإعجاب في الأوساط الفكرية العربية والاجنبية كفكر عميق الغور يصلح للقراءة واستنباط القواعد منه والاسترشاد بمعطياته العلمية . وقد سجلت في مؤلفي " مباحث في الفكر السياسي العربي الإسلامي " المفكر الكبير أبن خلدون كأحد العلماء الأفذاذ  الذي تركوا بصمة خالدة في تاريخ الفكر والحضارة ما زال علماء أوربيون يشيدون بذكره ليومنا هذا. ودونت في مؤلفي إيجازا دقيقاً لأهم المفاصل الرئيسية في العمل الكبير ولكن لا هذا ولا مقالة أخرى تغني عن قراءة النص الأصلي وهو متوفر في المكتبات وعلى الانترنيت. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


توصل المفكر العربي الكبير إلى ثلاثة حقائق مهمة ستكون حجر الزاوية في الفكر الخلدوني وفي دراسات مهمة لاحقة :

1. أن الإنسان مدني بالطبع .

2. أن الاجتماع الإنساني ضروري وهو أساس تاريخ العالم . 

3. أن العامل الاقتصادي هو العامل الأساس المحرك للتاريخ والحضارة .


وما يهمنا هنا هو التأكيد على طبيعة التحولات الجديدة ونحن نعتقد أنه أمر بديهي فالخلافات دارت حول مناصب ومزايا اقتصادية وكان ذلك إيذانا ًبضعف العصبية الإسلامية التي هي أيديولوجية إيمانية روحية مقابل تصاعد وتيرة العصبية القبلية والأسرية وبعد وفاة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الذين لم يعهدوا لأحد من أبناء أسرهم اشتدت الصراعات بصفة خاصة وكان الرسول قد تنبأ بحدوث مثل هذا الأمر ويستشهد أبن خلدون بحديث : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً عضوضاً " حديث) ثم غدا ذلك تقليدياً في الأسرة الأموية ومن بعدهم العباسية فيكتب أبن خلدون راضياً أو مواسياً : " أعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتع باللذات ولا شك أن هذه مفاسد محضورة . " 

(ص 192)


وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار يتبع ذلك في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول .

ابن خلدون : نفس المصدر  ص28 / 218 / 290 / 286


ويطالب أبن خلدون بدولة العدل الاجتماعي قائلاً :" وأعلم أن الشرع لم  يدم الملك لذاته ولاحظ القيان به وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتع باللذات ولا شك أن هذه مفاسد محظورة ". ثم يصبح أكثر تحديداً حيث يقول " إن الكسب والرزق هو بمقدار الضرورة (فابتغوا عند الله الرزق ـ 17 ـ العنكبوت) . وقال الرسول (ص) " إنما لك ما أكلت فأفنيت أو لبست أو تصدقت فأفضيت" ـ حديث) ويسمى رزقاً إذا لم يحصل به منتفع وقد إشترط المعتزلة في تسميته رزقاً أن يكون بحيث يصح تملكه وما يمتلك عندهم لا يسمى رزقاً وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيئاً منها رزقاً ".

أبن خلدون : نفس المصدر  ص192 / 381


والعصبية الإسلامية بوصفها رابطاً أساسياً سوف لن تبقى على ذات الدرجة من القوة والتأثير وفور وفاة الرسول(ص) طرحت الزعامة والرئاسة(خلافة الرسول) نفسها بوصفها قضية سياسية مهمة من خلال تعدد المرشحين وهنا عادت العصبية لتلعب دورها وإن كانت أقل حدة من عهد الجاهلية وها يعني أن الإسلام لم يلغ العصبية تماماً لعمق جذورها في حياة العرب نعم أضاف إليها وشذب منها وقلص من حدة الولاء ولكن دون إلغائها فسرعان ما عادت لتطفوا إلى السطح تدريجياً مع اشتداد سرعة إيقاع التطورات الاقتصادية والاجتماعية في الحياة العربية تلك التطورات التي جاءت مع رياح التغيرات في غضون فترة قصيرة جداً تلك التي كانت كبيرة لدرجة لا بد أن تخلف آثاراً مهمة . وإذا كان تقديم معطيات دقيقة عن نتائج هذا التطور الكبير يفوق مهمتنا في هذا المجال فأن أبن خلدون يذكر : " أن الفارس الواحد منهم يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألف من الذهب فيما كانت حياتهم قبل الإسلام بسيطة في شبه الجزيرة العربية ولم يكونوا يعهدوا أكل الدجاج مثلاً وكانت المناخل مفقودة عندهم فيأكلون الحنطة بنخالتها "ص.104) .

 

وأبن خلدون من قلائل المفكرين على الصعيد العربي والعالمي إذ أكتشف في عهد مبكر ما للتحولات الاقتصادية من أهمية كبيرة على الصعيد السياسي والاجتماعي والتحولات السكانية(الديموغرافية) وفي ذلك يقدم أبن خلدون معطيات مهمة فيذكر أن عدد السكان العرب في شبه الجزيرة العربية كان في عهد النبوة 150 ألفاً وبقدرهم من مضر وقحطان في حين سار المعتصم بن الرشيد (الخليفة العباسي الثامن) بعد ثلاثة قرون بجيش تعداده 900 ألف جندي لفتح عمورية.(ص.175). وقد أستمر العامل الاقتصادي يتصاعد في تأثيره وأهميته داخل المجتمع العربي الإسلامي ومعززاً لدور العصبية القبلية . إذن فقد توصل إلى ثلاثة حقائق مهمة ستكون حجر الزاوية في الفكر الخلدوني وفي دراسات لاحقة :

1. أن الإنسان مدني بالطبع .

2. أن الاجتماع الإنساني ضروري وهو أساس تاريخ العالم .

3. أن العامل الاقتصادي هو العامل الأساس المحرك للتاريخ والحضارة .


ولكن أبن خلدون يقر ضمناً أن صراعات كثيرة دارت تحت شعارات الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين وإن جدلاً نشب منذ اليوم الأول للخلافة (يوم وفاة الرسول ص) ولم ينته لحد الآن والسبب الرئيسي بتقديرنا هو خلو الشريعة من نصوص ثابتة واضحة تحدد أساليب قيام السلطة وإنهائها(إذا كان الحكم جائراً) وانتقالها في حالة وفاة الحاكم ولهذا فأن الخلافة وتاريخها شهد أساليب مختل منها العهد بالتفويض ومنها العهد إلى مجلس شورى وإلى جانب ذلك كانت البيعة فقرة رئيسية وكان يعول عليها بمثابة التصويت العلني على القيادة وهي : " البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ولا ينازعه في ذلك شيء ويطيعه بما يكلفه من أمر . (ص.209) والبيعة تنطوي في جوهرها على عقد بين الحاكم والرعية وتتضمن الشريعة مثل هذا النص بوضوح كاف وعن وجوب أقامة الإمارة فالنص في القرآن صريح :  إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعماً يعظكم به أن الله كان سميعاً بصيراً يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فأن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً " 59/58 ـ النساء) . فالأمانات هنا هي العهد المتبادل بين الحاكم والمحكوم  بين الناس وأولي الأمر. أن الشريعة (الدستور) تطالب الكافة(الشعب) بالطاعة ولكنها تطالب وتأمر أيضاً أولي الأمر بالعدل إذا حكموا بين الناس و(إذا) هنا شرطية وهو الشطر الثاني من العقد . نعم للحاكم أن يأمر والشعب يطيع فيما لا خروج فيه عن الدستور حيث لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق وإذا اختلفتم في شيء فالحكم هو الله ورسوله (كتاب الله ورسوله) فذلك أفضل التأويل تلك نصوص صريحة تقيد الحاكم وتوضح حدوده وحدود الشعب أنها صيغة تعاقدية واضحة كن خلع الأمير مثلت ولا تزال عقدة مستحكمة في الفكر السياسي الإسلامي .


ولما صارت البيعة أمراً تقليدياً ينالها الحاكم بصورة شبه تلقائية انقلبت الخلافة ملكاً بحكم اشتداد المصالح الاجتماعية والاقتصادية وذكرنا في مكان آخر أن الفارس الواحد قد يصيب في بعض الغزوات 30 ألف ذهباً وبع الفتوحات تحولت شبه الجزيرة العربية والمدينة إلى عاصمة إمبراطورية عظيمة ترد إليها الثروات من تركات الفرس في العراق والروم في بلاد الشام ومصر ومن الغنائم والفيء وأنشطة اقتصادية، فدارت عجلة الحياة الاقتصادية بسرعة وانقلبت حياة الناس في غضون سنوات قليلة جداً إلى علاقات وأحوال اجتماعية جديدة، فيقول أبن خلدون : " كانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن السراة أكثر من ذلك وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وألف بعير وعشرة الآف من الغنم، وبلغ الريع من متروكة بعد وفاته، أربعة وثمانون ألف. وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما يكسر بالفؤوس، عدا الضياع بمئة ألف دينار، وبنى الزبير داراً في البصرة وفي مصر والكوفة والإسكندرية، وكذلك بنى طلحة داراً في الكوفة والمدينة وبناها بالجص والآجر والساج، وكانت كلها أموالاً حلالاً لأنها مكاسب وغنائم."(ص.204) 


ولكن لأبن خلدون الحضرمي الأصل مقالة مسهبة في ذكر عروبة شمال أفريقيا، وحلول العرب فيها قادمين من اليمن قبل الإسلام بقرون كثيرة، منذ عهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل، وذلك يعني أكثر من 1200 عاماً قبل الميلاد، و1800 عاماً قبل الإسلام، أي قبل 3224 من يومنا هذا ! وقد تنازع السيادة عليها مع البربر وأن الملك العربي أمريقش بن قيس بن صنيعي من أعاظم ملوكهم هزم البربر وأسماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وعندما عاد من هناك، حجز في تلك الديار قبائل من حمير وصنهاجة وكتامة. ومن هذا ذهب الطبري والمسعودي والجرجاني وأبن الكلبي والبيلي أن صنهاجة من حمير ." (ص.12)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر هي إشارة لأرقام صفحات كتاب المقدمة

(الصورة : أبن خلدون وأثره الخالد)



تعليقات

أحدث أقدم