“ريان” لا يستحق الحياة !

مشاهدات

 


ياسر عبد العزيز


نعم كما قرأت.. العنوان (ريان لا يستحق الحياة) نعم أعني الطفل المغربي ريان الذي شغل العالم العربي لخمسة أيام قبل أن يخرج من البئر ميتا .


لا تغضب وتترك المقال، وتلعن صاحبه أعرف انسانيتك وأعرف دوافعك النبيلة وشعورك المرهف لكن لا تحكم على الأشياء بظاهرها ولا تجعل الجملة الموروثة (الجواب يظهر من عنوانه) تصادر على ما يمكن أن يفتح لك مساحات للتفكير والتدبر لعلي مخطئ فيما توصلت إليه من استنتاجات أوصلتني لأن أكتب هذا العنوان الذي يمكن ألا تقبله أيضا إدارة الموقع إلا أننا أمام أمر جلل ألا وهو كيف نحكم على الأمور ؟ وكيف ندفع للحكم عليها ؟ في عصر يحركه العلم والعلم تمتلكه فئة يتم استخدامها لتحريك المصالح وحرف البوصلة لما تريده فئة تسيطر على حائزي ذلك العلم والكل في منظومة واحدة تحكمها المصالح لذا أدعوك إلى التأني والصبر على السطور القادمة .


قصة ريان كيف نسجت ؟

 

في كتابه “الصحافة والسياسة الخارجية” أشار الكاتب (برنارد كوهين) إلى أن “وسائل الإعلام قد لا تنجح دائما في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون ولكنها تنجح دائما في إبلاغهم بما يجب أن يفكروا فيه”وما أكده كوهين لا يبتعد كثيرا عما ذهب إليه الكاتب والمفكر الأمريكي (والتر ليبمان) في كتابه “الرأي العام” الصادر عام 1922 أنظروا 1922 فالأمر ليس وليد الــــ سوشيال ميديا الأمر يخطط له من مئة عام عودا إلى ليبمان الذي أشار في كتابه إلى أن “وسائل الإعلام قادرة على التأثير في الجمهور من خلال تركيزها على قضايا معينة دون غيرها لطرحها على الجمهور ليتخذوا منها مواقف تتأثر بحسب طرح الإعلام لتلك القضايا”. لعلك صديقي القارئ أصبح عندك قناعة بأن الإعلام يستطيع أن يحرف توجهاتك في لحظة ما عما يريده الساسة لتمرير أمر لو دققت فيه سيكون رد فعلك غير الذي يريده الساسة ولعلك أيضا وبعد تجارب السنوات العشر الأخيرة لاسيما بعد الربيع العربي أصبح لديك من الفطنة ما يجعلك تقرأ الأمور بشكل صحيح بقدر كاف بعد هذا الوعي الذي أحدثته ثورات الوعي في بلدان أمتنا العربية سواء من شهد منها ثورة أو من تابعها عن كثب لكن اسمح لي أن أقول لك أن نسبة منا لا يزالون يقرأون الأمور على نحو صحيح تتضاءل مع مرور الوقت مع علو راية الثورات المضادة على راية الشعوب . فإذا سلمنا بأن العلم هو من يحرك هذا العالم وأن صناعة الرأي العام علم يدرس ويتطور وتصارع عليه الدول وتحتفظ بأسراره كما تحتفظ بسر القنبلة النووية فدعني أقدم لك نظرية في هذه المنظومة منظومة صناعة الرأي العام وتوجيهه.. نظرية “ترتيب الأولويات في الإعلام” والتي تؤكد على أن وسائل الإعلام هي التي توجه الاهتمام نحو قضايا بعينها فهي التي تطرح الموضوعات وتقترح ما الذي ينبغي أن يفكر فيه الأفراد وما الذي ينبغي أن يعرفوه وما الذي ينبغي أن يشعروا به فتركز على قضايا دون غيرها تفرض ترتيبا معينا للقضايا عند الجمهور وتحدد أهميتها وتتعمد في المقابل تجاهل وتشتيت انتباه الرأي العام عن غيرها حتى لو كانت أكثر أهمية أو خطورة وأداة تنفيذ تلك النظرية هي تكثيف التقارير الإخبارية والحملات الإعلامية وحديثا من خلال اللجان الإلكترونية أو ما يسمى بالذباب الإلكتروني على الــــ سوشيال ميديا فتجعلها محور اهتمام الجمهور وتفكيرهم بل وقلقهم ولأن الصحافة بالأساس في عصر سيطرة الإعلان مبنية على الإثارة فأصبحت أداة طيعة لهذه النظرية ومن يريدون الحكم من خلالها وهكذا تنسج القصص ويسلط عليها الضوء وبالنتيجة ينجر الجمهور وراء هذه القصة التي غالبا ما تستهدف الغرائز والمشاعر .


تبريرات منطقية تهون الصدمة :

 

بعدما اختار الله الطفل ريان إلى جواره ونحسبه في الجنة إن شاء الله خرجت التبريرات الهندسية والفنية لتوضح لماذا فشلت عملية انقاذ الطفل ذو الخمس سنين فقد برر مستشار وزير التجهيز والماء المغربي أحمد بخري أسباب تأخر عملية إنقاذ الطفل بغياب الآليات المتخصصة عن الجهة التي سقط فيها ريان في البئر وأن الآليات الموجودة في المشاريع القريبة من القرية التي سقط فيها ريان تعمل في مشاريع في مدن تبعد عن الحادث بعشرات الكيلومترات في “المشاريع الكبرى” لا حظ التعبيرات واختيار الالفاظ كما أن هشاشة التربة منعت من الحفر السريع خوفا على سلامة الطفل من الانهيارات الطينية بينما أكد رئيس الهيئة الوطنية للمهندسين المساحين الطوبوغرافيين خالد يوسفي أن صعوبة عملية الإنقاذ لا علاقة لها بتعقد التضاريس وإنما بعمق البئر لاحظ التناقض المقصود لكن الرجل وقع في خطأ ربما يحاسب عليه عندما قال إن خريطة خاصة بالبئر لا تتوفر ومن ثم لا تعرف الجهة الرسمية تفاصيل البئر الذي وقع فيه الطفل لكن المسؤول أردف مصححا بإن أحدث الآليات الموجودة في السوق العالمي من طائرات بدون طيار وآلات المسح والقياس بطريقة أتوماتيكية متوفرة لديهم أي أن الحكومة لم تقصر في شيء وعلى المواطن أن يفتخر بحكومته التي لا تبخل على شعبها بأحدث الأجهزة. تبريرات منطقية معجونة بمسحات الوطنية واللعب على غريزة التوحد بالجماعة والانتماء الذي يعطى على شكل جرعات ليل نهار للمواطن تتجلى صورها في مباريات كرة القدم بديلا للفتوحات والانتصارات على الأعداء.


كيف تفاعل العرب والعالم مع ريان؟

 

خمسة أيام لم تتوقف الدعوات النبيلة من العرب لتؤكد على إنسانية هذا الشعب العربي العظيم صاحب الدين والمبادئ والقلب الكبير بدأت الأمور بخبر على أكبر قناة إخبارية مشاهدة لتنتقل القنوات التي تأخذ من هذه القناة وتقلدها من دون مراجعة فقط لأنها تتخذ من تلك القناة بوصلة ولا ترى غير ما ترى ثم تنشط مواقع التواصل الاجتماعي لتشارك الحدث ضاغطة على إنسانية أصحاب الحسابات ولأن عليك أن تتواجد في حدث مهم كهذا، وعليك كذلك أن تؤكد على إنسانيتك فلابد أن تشارك الحدث وتدلي بدلوك فيه ولو بدعوة ومن ثم تنقل البث المباشر الذي أطلقه النشطاء والصحفيون ليغطوا مساحات لا يمكن للقنوات ذات التكلفة العالية في الإنتاج أن تجاريه . بين تعاطف واسع من الجماهير “الغفورة” على رأي دريد لحام في فيلم الحدود وبين مقارن بين أطفال بلده الذين لا يتلقون هذا الدعم الكبير رغم تعرضهم وعلى مدى عشر سنوات للقصف المستمرة والبراميل القاتلة وبين داع مبتهل ومتبرع مساعد لعائلة الضحية واصل الجميع الليل بالنهار متابعا نائما على الأحداث ومستيقظا على الأخبار باحثا عنها ينتظر النتيجة التي جاءت مخيبة للآمال . مع ذلك رأى الكثيرون الخير في هذه الحادثة على قدر ألمها فقد جمعت قلوب الأمة من مشرقها إلى مغربها ووحدت صفوفها المبعثرة ولمت شتاتها بعد أن فرقتها المشكلات ونظر كل تحت قدمه وما يعانيه من أزمات وويلات بدءا بالحروب وانتهاء بأقساط قروض السيارة موديل العام التي أصبحت عبئا لا ينام صاحبه من خشية تداعيات عدم السداد ولقد كان مستهجنا ذلك الصوت الذي قارن بين ما يحدث لأطفال وطنه وتجاهل الإعلام له وبين التغطية الإعلامية لحادثة تحدث شبه شهريا في ربوع أمتنا العربية فالمحصلة أن الصغير ريان جمع الأمة وأظهر معدنها رغم عمليات التجريف النفسي والأخلاقي للشعوب .


كيف يجب أن نقرأ القصة ؟

 

هذه المشاعر النبيلة والقراءة الحساسة للحدث الجلل ولا أخفيكم سرًا أنني ممن انفطر قلبه على الطفل لكن هذه القراءة وما سبقها من حالة تعاطف واسعة مع الحدث إنما دفعنا له بفعل الآلة الإعلامية لقد كانت القصة في حبكتها عظيمة، دبرها الله واستخدمها الإعلام المسيس وضخم بشكل كبير لنغرق في التفاصيل من دون أن نقف على الحقيقة ولعل هذا التضخيم والإغراق في التفاصيل إنما كان متعمدا لنغفل عن حقيقة واحدة هي أصل المشكلة ولعلها تتكرر كل يوم في بلادنا لاسيما في القرى والمناطق الشعبية المهمشة وسؤال يطرح نفسه لكنه غاب في زحمة التفاصيل لماذا لم يمهد عمر للبغلة التي عثرت طريقها ؟ إن حس الفاروق عمر بالمسئولية لا عن الإنسان الذي هو مناط الحياة ومحورها وحرمة دمه عند الله أشد من هدم الكعبة جعله يفكر في دابة عثرت في العراق وليس في المدينة ولو أن المجال يسمح لبحثت من أجل وضع إحصائية للأطفال والكبار الذين يسقطون في بلاعات الصرف الصحي التي تركت من غير أغطية لتحصد أرواح الأبناء والإخوة في بلادنا وهنا المسئول ليس عمر وحده وإن كان وبحسب القانون مسئول عن أفعال تابعيه لكن الموظف الصغير ورئيسه مسؤولون وسيــــ “قفوهم فإنهم مسؤولون” أمام الله الكل سيسأل . لكن دعوني أقرأ قراءة ثانية وأنا مسكون بالثورة العربية التي أراها لم تمت وتحتاج صعقات كهربائية لتنشيط قلبها قراءة مدفوعة بثورة الوعي والثورات المضادة التي يمثل المسئول عن حادثة ريان جزءا منها وأسأل سؤالا ربما يكون جدلي مفاده هل فعلا ريان كان حيا وقت أن أخرجوه هل كان حيا خلال الأيام الخمسة التي ترك فيها في البئر من دون طعام ولا شراب ولا أوكسجين لقد نزل أحد المتطوعين لمدة لا تزيد عن الخمس دقائق لعمق أقل من ذلك الذي كان به الطفل واستغاثة من قلة الأكسجين وطلب بإخراجه على الفور فهل يستطيع طفل أن يمكث خمس أيام ؟ إذن فلماذا خمسة أيام ولماذا هذا الزخم الإعلامي والتصريحات والتحليلات والدفع بالمعدات مع عدم التيقن من بقاء الطفل على قيد الحياة أراها من خلال هوسي بنظريات تسييس الشعوب وتوجيه الرأي العام بالون اختبار للآلة الإعلامية لقياس مدى تأثيرها وهيمنتها على الرأي العام وقوة توجيهها تلك التدريبات التي تقوم بها الجيوش لقياس جاهزيتها لكن ونحن في معركتنا الأبدية مع تلك الأجهزة وأدواتها نحو الوعي سنكون ما استطعنا بقراءتنا المتواضعة منبها مضاد الجرعات التخدير اليومية لشعوبنا حتى تنهض من جديد، فيا من بكيت على ريان خمس أيام ألا تظن أن.. ريان لا يستحق الحياة هذه الحياة التي يقهرنا فيها الطغاة ؟ 

!

تقبل الله الطفل ريان عنده وجعله من أصحاب اليمين ونسأل الله الثبات لوالديه ليكون لهم فرطا في الجنة.

 




تعليقات

أحدث أقدم