أخبرني والدي بأن قصر الرحاب (الذي يعرفه عامة الناس بإسم مؤسف آخر هو قصر النهاية) كان يقع على أطراف بغداد بل في نهاية عمرانها إذ لا توجد بعد جسر الخر الذي يحاذي القصر سوى مزارع الجت والأراضي التي ترعى فيها الثعالب والحيوانات البرية وقد كان الملك غازي مولعاً بالصيد فيها مع حاشيته ومرافقيه من ضباط الحرس الملكي .
وبعد انقلاب 14 تموز المتزامن مع صعود الطبقة المتوسطة في العراق قام عبد الكريم قاسم بتحويل تلك الأراضي الجرداء إلى وحدات سكنية موحدة ذات تصميمين . وقد بُنيت من قبل جمعية بناء المساكن للضباط فتم تشييد حي اليرموك في جانب الكرخ من بغداد كما وشُيدت منطقة أخرى مشابهة في جانب الرصافة هي (مدينة الضباط) ويقال أن مصمم الدور في المدينيتن هو المعماري رفعت الجادرجي وكان سعر الوحدة السكنية الواحدة 3000 دينار يقوم الضابط بتسديد ثمنها بالأقساط على مدار 25 سنة وبالفعل تم تسليم الوجبة الأولى من تلك الدور للضباط الشباب في بداية الستينات وكان بيتنا يقع ضمن الوجبة الثالثة التي تسلمها والدي في تلك الفترة أيضاً فانتقلنا إليه من الأعظمية بعد سنوات من استلامه وكنت في الصف الخامس الابتدائي فباشرت الدوام في مدرسة 14 رمضان الابتدائية ثم متوسطة اليرموك للبنات بعد ذلك . حيث كانت المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية موزعة جغرافيا في المدينة حسب الحاجة إليها ونسبة كثافة السكان فيها . شكلت هذه المدينة نموذجاً متقدماً للطبقة المتوسطة في العراق وهي الطبقة التي تعتبر العماد الأساسي لبناء المدنية في البلاد فقد تزوج الضباط الشباب من المعلمات وفقاً لقاعدة قديمة تقول (لو مُلازم لو ملازم) وكان هذا هو الجيل الأول الذي دشن المنطقة ليخلف بعده الجيل الثاني (نحن) من أبناء هذه المدينة وكان جيلنا قد تلقى تعليماً جيداً في المدارس التي ذكرتها وعاش في بيئة واعية أنتجت لوحة جميلة من الحياة العصرية إذ من النادر أن تجد تجاوزا على الأرصفة أو ألواناً فاقعة أو عشوائية في البناء ولأنها البداية فإني اتذكر بأننا أول سكننا في مدينة اليرموك كنا نرى سيارات توصيل ألببسي والحليب المعقم تتجول بين البيوت وصناديق الصمون موضوعة قرب أبوابها . أتحدث عن شارعنا فأقول بأن جيل الضباط الشباب الذي استلموا البيوت أول الستينات قد رحل وكان أبي من هذا الرعيل الذي غادرنا العام الماضي والجيل الثالث من الأحفاد تجد نسبة كبيرة منهم في المهاجر والمنافي أما جيلنا (الجيل الثاني) فقد حافظ بشكل كبير على انتمائه لأخلاقيات وسلوكيات نظامية حتى عند انتقاله إلى مناطق أخرى وهو جيل يتحلى بالهدوء ويتصف بالصوت الواطئ ويتبنى الاعتدال الجميل في الأفكار والمواقف والتصرفات ولهذا ظلت اليرموك تحافظ إلى حد كبير على صيغتها المهذبة وحضورها الأنيق مع خشيتنا من هجمة المطاعم على شوارعها الاربعة بطريقة ذبابية جعلت تلك الشوارع تتحول إلى كراج ضخم للسيارات التي تقف أمام المطاعم .
هذه الرؤية من صنعها ؟ يقال بأن صاحب الرؤية هو اللواء الركن حسيب الربيعي وهو مؤسس جمعية بناء المساكن التعاونية ولهذا يحمل الشارع الرئيس لمدينة الضباط في زيونة اسمه وفاءً من عبد الكريم قاسم لذكراه .. والرؤية لا تصنع جمالاً بعيداً عن لوحة فنية من الأفكار المشابهة التي كانت تريد لبغداد أن تعيش حركة عمران حقيقية وعصرية فبقيت بغداد لفترة طويلة تكافح من أجل الحفاظ على مدنيتها وحيويتها التي لم يخلقها سوى عشاقها أنفسهم ممن تولوا أمانتها أو أقاموا فيها فحافظوا على العلاقة بين المكان والمتمكن فيه وهي العلاقة التي ارتبكت يعد أن أصبحت بغداد نهبا للعشواء وغياب التخطيط فحصل الانقلاب نفسه في أذواق الناس عندما لم يجدوا من يشاركههم عشقهم أو يردعهم عن تشويه مدينتهم .. بغداد التي نعرفها أصبحت في حالة انفصام عن نفسها وماضيها ونصها العمراني وإذا استمرت هذه العشوائية لسنوات أخرى ستجد بغداد قد تحولت إلى قرية بائسة أو أصبحت أسمال مدينة .
إرسال تعليق