قراءة في عروس الثورات يوم ذكراها

مشاهدات


 
د . نزار السامرائي


بصرف النظر عما قيل من أن معلوماتٍ دقيقة كانت قد تسربت للأجهزة الأمنية في حكومة الفريق الركن عبد الكريم قاسم "نال رتبة فريق يوم 6 كانون الثاني 1963" عن أن مخططا للانقلاب على نظامه قد وصل إلى مراحله الأخيرة وبصرف النظر عما أتخذ من تدابير وقائية من قبل مديرية الأمن العامة والتي نفذت حملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف البعثيين من مستويات مختلفة إلا أن تلك التدابير لم توقف الخطط المعدة للتغيير بقدر ما عجلت بيوم التنفيذ خشية من انكشاف المزيد من تفاصيل الخطة وعجلت بالتالي النهاية الحتمية لحياة الفريق الركن عبد الكريم قاسم ونظام حكمه قبل أن يُكمل خمس سنوات من عمره في قيادة العراق .

نعم بصرف النظر عن كل ما ذكرته فإن يوم تنفيذ ثورة الثامن من شباط 1963 والذي صادف يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان 1382هـ، كان أكبر مفاجأة لجميع الأطراف سياسية وعسكرية حزبية ومستقلة فذلك اليوم لم يكن يوما عاديا في حياة العراق ولا في حياة حزب البعث العربي الاشتراكي واختيار هذا اليوم وفي هذا الشهر بالذات لم يكن اعتباطيا أو ضربة حظ بل تم حسابه بدقة من كل جوانبه فالشهر هو رمضان المبارك وعادة ما يسهر معظم الناس في هذا الشهر حتى فترة السحور  ثم يؤدون صلاة الفجر ويخلدون إلى فراشهم  .عبد الكريم قاسم نفسه كان يقضي معظم أيامه ولياليه في غرفة ملحقة بمكتبه في وزارة الدفاع وينتقل ليلة الخميس على الجمعة إلى منزله في منطقة الكرادة الشرقية ثم إن الضباط وبعد أن انتهى الدوام الرسمي ليوم الخميس 7 شباط ظنوا أن يوم الجمعة هو آخر يوم يمكن أن يفكر انقلابيون بتنفيذ انقلابهم فيه ولهذا مضى كل إلى غايته وهو في أعلى درجات الاطمئنان، إلى أن يوم الجمعة لن يختلف عن الذي سبقه . ومن التجارب السالفة فإن الثورات تنفذ فجرا وعندما تُشرق الشمس تؤجل كل الأفكار الاستثنائية إلى أوقات أكثر ملائمة على هذا نستطيع القول بجزم إن تنفيذ الثورة باختيار ثلاثة ظروف خاصة هي في شهر رمضان ويوم الجمعة وفي الساعة التاسعة ضحى قد حقق أكبر مفاجأة في بلد مثل العراق فالمباغتة التي تعد من أهم مبادئ الحرب قد تحققت بأنصع صورها في تنفيذ أول صفحة من صفحات الثورة . واللافت في صفحة التنفيذ الأولى أن من أعطى إشارة البدء بالخطوات اللاحقة كان اغتيال العميد الركن جلال الأوقاتي القائد الشيوعي وقائد القوة الجوية العراقية والذي كان محل ثقة عالية من قاسم  وكانت مجموعة التنفيذ مجموعة من البعثيين المدنيين المكلفين بهذه المهمة من قبل قيادة الحزب، لتكون ساعة الصفر من جهة ولتقطع الطريق على قائد القوة الجوية التي كان عبد الكريم قاسم يعتمد عليها في قمع أي تحرك مضاد لنظام حكمه وبهذه الخطوة الاستباقية فقد حقق الثوار مفاجأتهم الثانية بل والمدوية بقطع أهم شرايين القوة التي يمتلكها الفريق الركن عبد الكريم قاسم في مواجهة خصومه . وكانت الصفحة الثانية قيام عدد من البعثيين المكلفين بمسك الطريق الرابط بين بغداد ومعسكر أبو غريب حيث تتواجد مرسلات إذاعة بغداد فقامت أعداد منهم بأول خطوة لتحقيق هذا الهدف وهي الاستيلاء على مركز شرطة المأمون وما فيه من أسلحة وفي المواجهة التي حصلت بين الطرفين، سقط أول شهيد للثورة هو المرحوم قحطان عبد اللطيف السامرائي. لقد كان تأمين هذا الطريق الحيوي لأرتال القوات المتقدمة إلى بغداد أهم خطوة تحفظ أمن الثوار وأمن القطعات التي تتحرك عليه وكذلك من أجل تسهيل تحرك القيادات الحزبية بين مختلف أحياء بغداد ومعسكر أبو غريب الذي سيؤّمن لاحقا القوة المدرعة القادرة على خوض المعركة الفاصلة في استسلام الفريق الركن عبد الكريم قاسم . بعد تلك الخطوات الأساسية انطلقت من قاعدة الحبانية التي تمت السيطرة عليها من قبل عدد من الضباط المكلفين بهذه المهمة طائرات من نوع هوكر هنتر يقودها منذر الونداوي وطيار آخر ربما كان فهد السعدون لتنقض على مقر قاسم في وزارة الدفاع في سابقة غير معهودة في الانقلابات العسكرية العربية فتتحقق مفاجأة أخرى وترجح كفة الثوار على الفريق المؤيد لقاسم، وتوجه ضربة جوية أخرجت قاعدة الرشيد التي كانت تضم سرب حماية النظام وهو سرب مكون من طائرات ميغ 19 وهي الطائرات الأحدث التي امتلكها العراق من الاتحاد السوفيتي عن الخدمة وبعد الضربة الجوية انتشر شباب قوات الحرس القومي الذين تم اعدادهم  قبل مدة طويلة عبر ممارسات إنذارية للجهاز الحزبي سبقت اليوم الموعود وبعد تدريبات على نوعيات مختلفة من السلاح ولكن فروسيتهم كانت أعلى تأثيرا من خبرتهم القتالية في حسم كثير من المواجهات التي خاضوها، ولأول مرة يشاهد العراقيون حشدا من الشباب المنتشرين على مفترقات الطرق بعضهم يحملون السلاح ويرتدون ملابس مدنية تميزهم علامة خضراء معلقة على الساعد الأيسر وقد كتب عليها حرفان، هما ح . ق أي حرس قومي وكان لوجودهم أبلغ الأثر في بعث الطمأنينة في النفوس التي كانت تترقب ما سيحصل . في ذلك اليوم انطلق من مرسلات إذاعة بغداد البيان رقم واحد للثورة ثم البيانات الأخرى مذيلة باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة بأصوات لم تكن معهودة لدى مستمعي الإذاعة لعل أكثرها تأثيرا وحماسة هو صوت السيدة هناء العمري رحمها الله.ثورة الثامن من شباط لا تشبه أي تغيير شهده العراق قبله فقد حصلت مواجهات مسلحة عنيفة وحروب شوارع بكل معنى الكلمة فالمواجهات العسكرية تركزت بصورتها النظامية بين القوات المؤيدة لعبد الكريم قاسم والتي حبست نفسها في وزارة الدفاع في أكبر خطأ استراتيجي يرتكبه قائد عسكري كبير عندما يحصر نخبة قواته في حيّز ضيق لا تمتلك فيه القدرة على المناورة أو تعويض الخسائر البشرية أو في المعدات والأسلحة التي كانت تتدمر أو العتاد الذي كان ينفد بسرعة بسبب اشتداد حدة المعركة من جهة وبين القوات المؤيدة للثورة التي وصلت مرحلة اللاعودة فإما الموت أو الحياة لكلا الطرفين كانت القوات المحصورة داخل وزارة الدفاع تفقد الرجال واحدا تلو الآخر ولا تمتلك تعويضهم وكذلك السلاح الذي يُدمر فلا بديل له والعتاد الحربي يقترب من نهايته أما الجانب الآخر فتحت تصرفه كل مستودعات الجيش  بالمقابل فإن الحزب الشيوعي العراقي الذي كان في السنوات الأخيرة من عمر حكم عبد الكريم قاسم، في حالة عداء وصلت إلى حرب كلامية بين الطرفين وخاصة بعد شق الحزب إلى حزبين وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه فإما أن يتراصف مع نظام الحكم وبالتالي يدخل في مواجهة غير متكافئة مع قوى كانت تستميت لتحقيق النصر وإما الوقوف موقف المتفرج وينتظر ما ستؤول إليه الأحداث ثم يقرر الخطوة التالية فاختار المواجهة على الانتظار ولكنه كان كمن فقد بوصلته في اتخاذ الخطوة الصحيحة . 
 
طوى الحزب الشيوعي صفحة العداء مع عبد الكريم قاسم بجرة قلم أمينه العام حسين رضوي "سلام عادل" الذي دبج بيانا من مقر اختفائه يدعو الحزب لأعلى درجات المواجهة كان الحزب يخشى من مجهول يُنذر بخطر أكبر من قوى سياسية ناصبها العداء وأطلق عليها فصائل المقاومة الشعبية فارتكبت من الجرائم ما لا يعد ولا يُحصى في بغداد والموصل وكركوك فأصدر بيانا نارياً حث فيه أعضائه وأنصاره ليهبوا في مواجهة "المؤامرة الأمريكية" والاستيلاء على أسلحة الجيش والشرطة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . وبالفعل فقد شهدت مناطق عدة في بغداد مواجهات عنيفة بين مسلحي الحزب الشيوعي والقوات الحكومية من شرطة وجيش مدعومة من عناصر الحرس القومي كما حصل في الكاظمية والكريمات والشاكرية والثورة . بالمقابل ألجأ الحزبُ الشيوعي المجلس الوطني لقيادة الثورة لإصدار البيان رقم 8 والذي صيغ بعبارات قاسية تتناسب مع الظرف الطارئ، الذي نشأ عن بيان الحزب الشيوعي في مواجهة الثورة بالسلاح ووضع نفسه في وضع صعب للغاية وأدخل العراق في دوامة الدم وبعد أيام سطّر فيها فرسان البعث أنصع صفحات التضحية والبطولة، استسلم عبد الكريم قاسم للثوار  وتم سوقه إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية وتمت محاكمته بصورة عاجلة وحُكم عليه بالإعدام لتطوى خمس سنوات من تاريخ العراق الجمهوري حفلت بسياسة "فرق تسد" التي جاءت حركة تموز 1958 لتضع لها حدا باعتبارها من مخلفات الاستعمار البريطاني .

تعليقات

أحدث أقدم