البنية الأيديولوجية لداعش خرقت نواميس الواقع ومنطق الطبيعة؟

مشاهدات

 




بقلم: الكاتب والباحث السياسي

الدكتور أنمار نزار الدروبي


الله سبحانه وتعالي خلق هذا الكون بشكل منظم جدا وبشكل دقيق جدا وبشكل هندسي جدا فتبارك الله أحسن الخالقين. التفاعل يسري بين جميع الأشياء وبشكل معقّد جدا، أما العقل البشري بحسب تعريف الماركسية هو أعقد صورة أنتجتها المادة من خلا التطور التاريخي، وهو تعريف ساذج إذا لم يكن سخيفا. إن العقل الإنساني هو البؤرة العظمى التي تستقطب أنوار وأسرار جميع معالم الوجود والكائنات بما في ذلك ما هو خارج عن الإدراك الحسي والتصوّر. عند هذه النقطة الجوهريّة تكمن العلاقة بين الخالق العظيم ومخلوقه المنتخب الإنسان. المسألة التي نحن بصددها هي غياب الإرادة وسيطرة الأفكار التكفيرية المتطرفة على عالمنا المعاصر. ماهي إمكانية هذه الأفكار التكفيرية على العقل ومن ثم الفعل والتأثير أبعد من حدود قواه الماديّة، وهي صناعة أيديولوجية للتطرف والعنف بمختلف الأشكال والمسميات (العنف الديني، العنف، التكفيري، العنف الثوري، العنف السياسي، العنف الاجتماعي وحتى العنف الأسري) ثم الإرهاب الذي أصبح يسيطر على مقدرات العالم. وأين هو السّر، ما هو الحقيقي الذي يعجز المنطق عن تفسيره أو تعليله، الى أي غاية تسير حياتنا ووجودنا، أسئلة لا حدود لها. لكن الأهم في مجمل الأسئلة هو من يدير كل شيء ويحكم مقاليد التكفير حقا وحقيقة؟ 

ينتمي تنظيم داعش الإرهابي أيديولوجيًّا إلى السلفيّة الجهاديّة، والجهاد العالميّ مع أنه يضع بصمته على مرحلة جديدة في التطور، أو التحول في الفكرة الأيديولوجية الواحدة. فلم يرث زعيمه المجرم البغداديّ الإرث الدمويّ لسلفه الإرهابي أبي مصعب الزرقاويّ فحسب، بل عمل وَفق منهج الإرهابي أسامة بن لادن وأفكاره وأفكار السلفيّين الجهاديّين، فأصبح زعيماً لحركة الجهاد العالميّ من دون منازع. وبما أن لحركة الجهاد العالميّ منذ خمسين سنة من عمرها مخزوناً من الأفكار، وإطاراً مرجعيًّا، ومنظرين، وآلاف الأتباع الانتحاريين، فقد شكلت هذه الحالة مصدر إلهام للمتطوعين الجدد. وبالتالي كان في مقدور تنظيم داعش أن يتبنى هذا المخزون، فيُكرر المفاهيم القديمة، ويقدمها في صيغة جديدة أو بطريقة ثورية، إذ استخدم التنظيم خطاب الأيديولوجيا الدينيّة بشكل مؤثر. وكذلك اعتمدت داعش على تفسير مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وبعض الشواهد التاريخيّة، من فعل الخلفاء الراشدين والصحابة والسلف وتأويلها في تحديد مفاهيم الحاكمية والطاغوت، وكذلك مفاهيم الولاء والبراء، والمولاة الكبرى والصغرى مع الحكام والطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. لاسيما أن القرآن والأحاديث الشريفة والخلفاء الراشدين والصحابة براء من هذه الأفكار.

ونظراً لفكر السلفيّة الجهاديّة بأن مفهوم الحاكمية هو الكفر بالدساتير والأنظمة السياسيّة والمؤسسات العسكريّة إذ تُعدّ المشاركة في الانتخابات السياسيّة من وجهة نظر السلفيّة الجهاديّة، هي منح المشروعية للواقع السياسيّ الفاسد، وأن المشاركة في المجالس التشريعيّة كفر، وشرك بالله العظيم، سواء كان ذلك بدول الردة التي توصف بالإسلاميّة، أم في دول الكفر الأصلية. لأن هذه المجالس وبحسب رأيهم، تجعل حق التشريع مطلقاً للبشر لا لربهم، وأن الديمقراطيّة هي حكم الجماهير أو الطاغوت وَفقاً للدستور وليس وَفقاً لشرع الله، فالديمقراطيّة هي ثمرة العلمانية وبنتها الشرعيّة، فهم يعدّون العلمانية مذهب كفر يرمي إلى عزل الدين عن الحياة، أو فصل الدين عن الدولة والحكم، فالمجالس التشريعيّة أحد لوازم الديمقراطيّة التي يجب أن ينطبق عليها الحكم بالكفر وبحسب اعتقادهم.

تعود البدايات الأولى لظهور تنظيم داعش الإرهابي إلى عام 1999، إذ ارتبط ذلك بالمدعوّ (أبي مصعب الزرقاويّ) عندما انتقل إلى أفغانستان، وتلقّى الدعم من تنظيم القاعدة لتأسيس تنظيم جهاديّ اسمه (جند الشام) وبعد ذلك تم تغيير الاسم ليصبح جماعة (التوحيد والجهاد)، وبدأ التنظيم العمل بالعراق عام 2003 ليمثل القاعدة الأم في مواجهة الاحتلال الأمريكيّ إلا أنه في الحقيقة قد استهدف مؤسسات مدنية وعسكريّة، وقتل آلاف الأبرياء بالعجلات المفخخة والانتحاريين. وبعد مقتل الزرقاويّ عام 2006 قام تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بالانشقاق عن تنظيم القاعدة الرئيسي، وأسس تنظيماً جديداً أطلق عليه تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق أو (دولة الأبالسة) كما وصفتها مسبقا، وكان بزعامة الإرهابي (أبو عمر البغداديّ). وبعد مقتل البغداديّ في عام 2013 اختار مجلس شورى التنظيم (أبا بكر البغداديّ) رئيساً للتنظيم، وفي العام نفسه أُعلن عن ضم جبهة النصرة في سوريَّا إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق ليصبح بعد ذلك تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، وبعد فترة اختلفت النصرة مع داعش، واتهمته بمحاولة الانفراد بالسلطة والتشدد في تطبيق الشريعة، وتنفيذ إعدامات عشوائية، وتعمقت الخلافات بينهما، تحديداً في أعقاب اشتعال الأزمة السوريّة عام 2011، وقد نفت جبهة النصرة وعلى لسان زعيمها الإرهابي (أبي محمد الجولانيّ) اندماجها مع داعش، الأمر الذي دفع البغداديّ إلى إعلان تأسيس الدولة الإسلاميّة في العراق والشام في 8 أبريل 2013.

  ولدى تفكيك الخطاب الأيديولوجيّ لتنظيم الدولة داعش نرى أن دور الزرقاويّ كان بارزاً في وضع اللبنات الأولى للتنظيم أيديولوجيَّا وفكريًّا. حيث استند خطاب داعش إلى أفكار الباكستاني أبي الأعلى المودوديّ وسيد قطب وغيرهم من منظري السلفيّة الجهاديّة، وهي، الحاكمية، والجاهليّة، والتكفير، والجهاد. عليه فإن تنظيم داعش يتبع الأصول النظريّة والتاريخيّة المؤسسة لهذه المفاهيم، بدأ من كتابات أبي الأعلى المودوديّ، وسيد قطب، وصالح سرية، وجيهان العتيبي، ومحمد عبد السلام فرج، وصولاً إلى كتابات أبي عبد الله المهاجر.

وتأسيسا لما تقدم، فإن تنظيم داعش ليست ظاهرة مؤقتة، ستزول بزوال أسبابها، وإنما ستظل معنا كونها تعبر عن تيار أيديولوجيّ يسمى (تيار الخلافة). والمقصود هو وجود جماعات وحركات وتنظيمات تتخذ من مسألة الخلافة بُعداً أيديولوجيًّا ترتكز عليه، وذلك باعتبار أن الخلافة مسألة ساكنة في خيال الإسلاميّين ولا يمكنها أن تتغير، بالرغم من أن هناك كثيراً من التنظيمات والحركات والأحزاب الإسلاميّة التي تخلت فكريًّا وعمليًّا عن فكرة الخلافة بمعنّيها التاريخيّ والدينيّ.

الجدير بالذكر أن ما يسمى بالجماعات الجهادية تشترك في تبنيها لنمط الخطاب التكفيريّ السياسيّ الذي يقوم أولاً وأخيراً على نزع شرعية الحاكم، وتحويل الولاء عنه من خلال الحكم بكفره، وهذا الخطاب تحديداً اكتفى بتكفير السلطة فقط، بخلاف خطاب التكفير الشامل الذي يحكم بتكفير السلطة والمجتمع. بمعنى آخر، إن الخطاب الجهاديّ يتريث في الحكم بالكفر على المجتمعات الإسلاميّة الراهنة، ويفضل وصفها بالمجتمعات الفاسدة التي يحكمها مرتدون أو كافرون أو منافقون، بشكل يُفضي إلى الحكم بتكفير الأفراد وليس المجتمعات، فالمجتمع في هذا المعنى هو ضحية لنظام سياسيّ كافر لا يجوز الحكم عليه بالكفر إلا في حالة موالاته للحكومة الكافرة ورفضه الحكم الإسلاميّ.  

يجب التأكيد على حقيقة مهمة مفادها أن تنظيم داعش لا يتعايش مع أيّ فصيل آخر، فذلك يعدّه انتقاصاً من شرعيته واحتكاره للجهاد العالميّ، لأنه حركة شمولية، دينية، لن ترتكب الأفعال الشريرة فحسب، بل ينقصها الخيال السياسيّ، وتعارض أيديولوجيتها مع طرائق عيش المواطنين العاديين، لأن التنظيم قد صنع أعداء محليين ودوليّين، وإن أفكاره تمثل خطوط طوباوية خالصة تفرض الماضي البعيد بالقوة على الحاضر.



تعليقات

أحدث أقدم