لا صديق للكرد المهاجرين على حدود بولندا

مشاهدات



هيفاء زنكنة


الرئيس الأمريكي جو بايدن قلق هذه الأيام يشاركه القلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس بسبب «محاولة اغتيال» رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في العراق مصطفى الكاظمي في الأسبوع الماضي .  فمشاعرهما ومعهما كل من هب ودب من المسؤولين الأمريكيين والأوربيين والشرق أوسطيين كانت أعمق من مجرد القلق ولغة الإدانة والاستنكار ونعوت الإرهاب بل ووصل رذاذها مجلس الأمن المعروف بصمته عادة تجاه جرائم الإبادة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني أو حتى إدانة سياسة الاستيطان على الرغم من كونها مخالفة للقانون الدولي وإذا ما أخذنا حالة العراق مثالا فإن صمت مجلس الأمن مدوٍ إزاء جرائم التطهير المذهبي والتهجير القسري في محافظة ديالى شرق العراق في الأسابيع الأخيرة بمشاركة «الحشد الشعبي» المنخرط في القوات الأمنية الحكومية .


مصدر قلق الرئيس بايدن وبوتين هو أن «وضع الأطفال مؤسف وخطير» عند الحدود بين بيلاروسيا وبولندا حسب تعبير بوتين على الرغم من أن وضع الأطفال المؤسف على حدود البلدين ليس وليد الأسبوع الماضي  بل بدأ في العام الماضي حين سمحت حكومة بيلاروسيا بدخول العراقيين أراضيها بلا تأشيرة وهي مسألة نادرة الحدوث للعراقيين الذين يعانون الأمرين للحصول على أي فيزا باستثناء ما تمنحه قلة من دول تعد على أصابع اليد الواحدة . وبتسهيلات غير عادية قامت شركات بتنظيم «رحلات سياحية» بالمئات فكان من الطبيعي أن تصبح هذه السفرات فرصة عمر لمن يريد مغادرة العراق والهجرة مرورا من بيلاروسيا الى بولندا ومنها الى ألمانيا أو أي بلد أوروبي آخر فكانت النتيجة بعد نجاح عبور الآلاف إغلاق بولندا حدودها مع بيلاروسيا واتخاذ قرار بأطلاق النار على كل من يحاول العبور فبقيت أعداد كبيرة من المهاجرين بينهم عوائل بكاملها معلقة على الحدود بين البلدين أصبح المهاجرون بيادق تتلاعب بحياتهم حكومتا بيلاروسيا وبولندا ضمن أجندة الخلافات السياسية حيث يتهم الأوروبيون وهم يسرعون بإصدار القوانين ومد الأسلاك وحشد الحراس للحد من أعداد المهاجرين إليها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بمنح تأشيرات للمهاجرين ووضعهم على الحدود كرد فعل على العقوبات الأوروبية التي فرضت على بلده  لقمعه حركة معارضة بعد الانتخابات الرئاسية في 2020 . يشكل العراقيون غالبية المهاجرين المحصورين حاليا في وضع لا أنساني في درجات حرارة وصلت الصفر مئوي مما دفع مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إلى توجيه نداء إلى الدولتين والعالم مشددة على ضرورة ألا يقضي اللاجئون ليلة أخرى عالقين بين البلدين كان ذلك يوم الأربعاء الماضي ولم تتجاوز الإجراءات المتخذة توزيع الخشب للتدفئة ووجبات طعام رميت على المهاجرين بشكل مهين وإعلان حكومة الكاظمي تبرعها ببضعة دولارات للمساعدة ولا يزال نحو أربعة آلاف شخص عالقين هناك في برزخ البرد واليأس والانتظار بعيدا عن أوطان تعامل أبناءها بقسوة تجعلهم  يفضلون الموت على الحياة فيها أو كما يقول المثل الجزائري الذي يكرره الشباب المهاجرون في قوارب الموت «يأكلني الحوت ولا يأكلني الدود» وهو ما ينطبق أيضا على الشباب التونسي ألذي تجاوزت ظاهرة «الحرقة» كونها حلم أبناء الطبقة الفقيرة لتصبح طموحا يسعى إليه الخريجون من أبناء الطبقة المتوسطة، بحثا عن فرص العمل . ولا يكف الشباب عن محاولات الهجرة على الرغم من كل المخاطر والصعوبات الجسيمة وهو ما يجمع الشباب على تنفيذه في العراق بأعداد مذهلة حيث غادره نحو 28 ألف مهاجر منذ مطلع عام 2021 تم إلقاء القبض على 803 منهم وإعادتهم إلى العراق ووفاة 33 منهم في طرق الهجرة حسب جمعية اللاجئين في إقليم كردستان العراق . 


تبين متابعة تفاصيل مأساة المهاجرين على الحدود البيلاروسية البولندية إن إلقاء اللوم على الصراع الدولي وحده  ليس كافيا فجذر المأساة يمتد في عمقه إلى بلدانهم ومسؤولية حكوماتهم مهما كانت طبيعتها بالنسبة إلى المهاجرين العراقيين تشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى أن معظم المهاجرين هم من الكرد الهاربين من إقليم كردستان العراق الأمر الذي يثير عديد التساؤلات حول صورة الإقليم الديمقراطية المزدهرة غير الملوثة بفساد بقية العراق التي تروجها أجهزة إعلام رئاسة الإقليم الإقليم المتقاسم سياسيا واقتصاديا بين عائلتين هما البارزاني ومقرها أربيل وعائلة طالباني ومقرها السليمانية تتصرف العائلتان بكل ما هو موجود في الإقليم ولا يمكن تجاوز أفرادهما المستحوذين على مراكز السلطة بأي شأن كان خاصة عقود النفط. نجحت العائلتان بتكوين طبقة ملياردية في فترة قياسية على حساب العاطلين عن العمل فقط لكونهم غالبا لا ينتمون الى أي من العائلتين ـ الحزبين . وهو السبب ذاته الذي يعاني منه الخريجون الذين لا ينتمون لأحزاب الحكم الفاسدة في بقية أنحاء العراق. إذا أضفنا الى واقع الإقليم ثالوث الطائفية والتهجير القسري والإرهاب المستشري في بقية البلد لفهمنا نفسية الشباب والعوائل في محاولاتها الهرب بحثا عن المستقبل وإن كان محفوفا بالمخاطر ومع كل هرب ينكشف زيف إدعاءات الحكومات المحلية بأنها تمثل أبناء الشعب وتحمي مصالحهم  وهي إدعاءات حكومات تستمد مرجعيتها من الاستقواء بدول مكنتها من السلطة أولا وباتت درعا لحمايتها من غضب شعوبها ثانيا .  وهذا الغضب هو منبع قلق جو بايدن وبوتين الحقيقي أما الخوف على أطفال المهاجرين فهو لا يزيد عن كونه تعبيرا جاهزا وجزءا لا يتجزأ من عالم السياسة بمناوراتها ومصالحها وتحالفاتها الظاهرة والخفية وضحايا هذه اللغة الناعمة ـ المغموسة بالإنسانية الزائفة المتأخرة غالبا التي لا يطلع عليها العالم ما لم تصل حد الكارثة والموت هم الأطفال وعوائلهم، المُجبرة على الهجرة من بلدانهم إلى بلدان يرون فيها مستقبلا أفضل من واقعهم اليومي بتفاصيل الحروب والصراعات والفساد والبطالة، وتردي كل أساسيات الحياة التي يجب أن يتمتع بها كل مواطن في بلده هربا من واقع يجرده من إنسانيته ويجمده في قاع مظلم بلا أفق يخاطر المهاجر بحياته وحياة أطفاله المرة تلو المرة كي يتشبث بما يراه المنفذ الوحيد للحياة ويبقى البديل واحدا على مر تاريخ الشعوب وحاضرها وهو استمرارية النضال بأشكاله المتعددة لاستعادة الأمل المتمثل بوطن يتسع للجميع بلا استثناء .

تعليقات

أحدث أقدم