الزبيدي يتوج عشقه للكاظمية بكتاب توثيقي

مشاهدات

 


طه جزاع

 

ليس من السهولة أن تُلخِص حياة مدينة خلال قرن كامل ، وعمرها يمتد لما يقارب من 1256 عاماً ، إلا اذا كنتَ مرتبطاً بهذه المدينة منذ ولادتك ، ومن ثم طفولتك وشبابك ومسيرة حياتك ، وتنفستَ عطرها الروحي كمركز ديني وتاريخي ، وعرفتَ عن كثب بيوتاتها ومجالسها ورجالها ، مثلما درجتَ في أزقتها وجلستَ في مقاهيها ، ولعبتَ في ملاعبها ومتنزهاتها مع أطفالها وصبيانها ، واستمعتَ إلى أحاديث مسنيها وذكرياتهم عن المدينة قبل أن تذهب إلى عالم النسيان . وهذا ما فعله الزميل علي عبد الأمير عيسى الزبيدي حين أقدم على انجاز كتابه التوثيقي " شذرات من تراث الكاظمية في القرن العشرين " وفاءً منه لمدينته التي عشقها حتى الثمالة ، واضطر لمفارقتها على مضض بضع سنين ، لكنها لم تغب لحظة واحدة عن قلبه وذاكرته ، فهي كالنسغ الصاعد مع كل نفس يستنشقه أينما حل وأرتحل ، حتى إذا ما عاد اليها سارع إلى جمع أوراقه ووثائقه ومصادره وصوره وما سجله من أحاديث وما استمع إليه من حكايات ، وتفرغ لها بقدر ما تستحق التفرغ ، ليقدمها بمثابة هدية وفاء لمرتع صباه وملعب فتوته وحلم شبابه وطموح رجولته ، مثلما يقدمها لعموم القراء وللمكتبة العراقية العطشى لمثل هكذا مؤلفات توثيقية ، ولم يعتمد في ذلك إلا على نفسه وامكانياته المحدودة لدفع تكاليف طبع الكتاب الذي أراده الظهور بأحسن صورة ، لاسيما وقد ضمنه صوراً نادرة للمدينة ورجالها على امتداد القرن العشرين ، وربما استطاع في المستقبل أن يصدر منه طبعة جديدة بطباعة راقية تتناسب والجهد الذي بذله في الاعداد لكتابه وجمعه للصور من مصادر متنوعة ، لو توفرت جهة مساندة وداعمة لمشروعه التوثيقي هذا .


                فاضل الجمالي ابن الكاظمية

منهجياً يقع الكتاب في فصول ثلاثة هي " علماء وفقهاء الكاظمية " ، " الدولة ورجال السياسة " و " الحياة الاجتماعية والمهنية للمدينة " غير ان اتساع البحث ، والتداخل الذي لا يمكن الخلاص منه في الكثير من القصص والحكايات والمشاهد والأحداث الاجتماعية والسياسية ، جعل فقرات كل فصل من الفصول وكأنها نسيج واحد ، وهي فقرات تزيد عن  120 فقرة تناولت تعريفات بشخصيات لعبت أدواراً مشهودة في التاريخ الوطني أمثال الشيخ مهدي الخالصي الكبير والسيد محمد الصدر والدكتور محمد فاضل الجمالي والنائب صادق البصام التميمي والشيخ عبد المحسن الكاظمي ، فضلاً عن شخصيات واكاديمية وثقافية وفنية ورياضية وشعبية أمثال الدكتور علي الوردي والدكتور حسين علي محفوظ والدكتور فرحان باقر والدكتور حكمت عبد الرسول والدكتور نزار باقر الحسني والدكتور إبراهيم خليل الشمري والحاج عباس الجصاني ونازك الملائكة وجعفر السعدي وغيرهم . كما تناولت تلك الفقرات مختلف أوجه الحياة في المدينة ، من المواكب الحسينية وخطباء المنبر الحسيني ومجالس العزاء ومواكبه ، والصحافة والصحفيون والمصورون والتصوير الفوتوغرافي ، والصيرفة والصرافون ، والعمارة والمعماريون ، والحلاقة والحلاقون ، والرياضة والرياضيون ، ورجال القانون والمحامون والمعلمون والمدرسون والمكتبات العامة والخاصة ، والمجالس الأدبية حيث يخصص صفحات منها لمجلس الخاقاني الذي بدأت نواة تأسيسه أثناء زيارات العلامة الدكتور الشيخ عيسى الخاقاني إلى العراق وكان الأقرب إلى نفسه الدكتور حسين علي محفوظ والدكتور علي الوردي، والأمثال الشعبية ، ومتعهدو الحج والعمرة (الحملدارية) والقابلات المأذونات والدفن والدفانة ، والصناعات والمهن وباعة الكتب والقرطاسية والحمامات العامة والصناعات الشعبية مثل صناعة السيوف وصياغة الذهب والفضة ومعامل الغزل وصناعة النسيج " معمل الحاج نوري فتاح باشا " وأسواق الاسماك واللحوم ، وعلاوي جملة الفواكه والخضر والمقاهي ، إلى باعة الباجة وكبة البرغل والحلويات .

ومن بين هذه الفقرات نلمح عدداً من الإشارات حول شخصيات يرى الزبيدي أنها تستحق الاهتمام من المدينة لما لعبته من أدوار مؤثرة في مجمل الحياة الوطنية والاجتماعية ومنهم الدكتور محمد فاضل الجمالي الذي يعد من أبرز معالم السياسة والتربية في العراق ، وهو الذي قال في رسالة إلى رحيم كاظم الهاشمي " إن تناول حياتي كلها يستغرق سنوات يصعب استعراضها ، عمري فوق التسعين ، خبراتي ثمانون سنة من الدراسة والتدريس والسياسة " ويدعو المؤلف إلى إقامة تمثال للجمالي في مدينته الكاظمية التي ولد فيها عام 1903 ، ومن سياسيي الكاظمية البارزين فضلاً عن الجمالي وعبد الرسول الخالصي وعبد الكريم الأزري وعبد الصاحب العلوان والدكتور عبد الحسين الجمالي والسيد باقر احمد الحسني نائب رئيس تشريفات البلاط الملكي ، وكذلك يولي اهتماماً خاصاً بالطبيب الجراح الدكتور فرحان باقر الذي يطلق عليه لقب " طبيب الرؤساء الأربعة " وبقية الأطباء المشهورين حكمت عبد الرسول ونزار باقر الحسني وإبراهيم خليل الشمري ، وفي مجال النحت والرسم والحفر على الخشب تبرز أسماء الفنانين الكبار محمد غني حكمت وخليل الورد واتحاد كريم وهاشم الورد ووضاح الوردي وإبراهيم النقاش ، ويخصص المؤلف حيزاً للتعريف بالنحات عبد المطلب مهدي عبود الطائي الذي يعد من أبرز نحاتي العراق لكنه لم يأخذ حقه إعلامياً ، وهو الذي وفر للمؤلف الكثير من الصور المهمة والنادرة .


          سيف فيصل الأول وستائر قصر الخديوي

كما نرصد عدداً من المواقف الإنسانية والحكايات الطريفة والمعلومات غير المتداولة ، ومن ذلك صانع السيوف عبود الجواهري حيث أن السيف الذي تقلده الملك فيصل الأول يوم تتويجه الشعبي في المدرسة الخالصية في الكاظمية عام 1921 كان من صنع والد عبود الجواهري ، وإن ستائر قصر الخديوي إسماعيل في مصر تم نسجها من الحرير الخالص في الكاظمية . وفي اشارته الى النقل النهري في الكاظمية يسلط الضوء على أشهر أصحاب القفف " قوارب دائرية من قصب البردي تطلى بالقار " وهو حميد بنانة الذي قضى غرقاً في نهر دجلة في ليلة عاصفة حيث انهار عليه جرف النهر منتصف ستينيات القرن الماضي ، كما يشير إلى وسائط النقل البرية وكان من ابرزها الكاري أو الترام واي وهي عربة تجرها الخيول على خط سكة حديدي تصل بين الكاظمية وكرخ بغداد ، وكذلك الربل الذي كان يعد من وسائط النقل الراقية ويمثل مظهراً من مظاهر الحياة البغدادية القديمة ، ويناشد المؤلف بهذا الصدد الجهات المعنية لإعادة الربلات إلى الخدمة على أن يقتصر سيرها على شارع الرشيد لكونه أصبح شارعاً سياحياً . ومن ظرفاء المدينة أمثال جعفر كنجة ورزاق عطرة يتوقف الزبيدي عند كامل العايد وكان مراقباً بلدياً وشاعراً شعبياً وصاحب نكتة ، شاهد تزويراً لصالح أحد المرشحين في انتخابات العام 1954 فوقف وسط المركز الانتخابي ليقول بصوتٍ عالٍ ( هي باط هي بيط صارت خرابيط تلعب بالبلد حفنة زعاطيط ) ! .


          الحاج يحيى الأودجي ( الطابو المتنقل )

أما أشهر بائعي البيض في سوق الدجاج فهو حميد أبو النفط الذي كان يميز البيض الطازج من البيض الفاسد بتقريب البيضة من احدى عينيه وبنظرة ثاقبة يعرف البيضة الطازجة من الفاسدة وكأنه ينظر من خلال منظار ، ومن الشخصيات التي تلفت الانتباه شخصية بائع الفواكه والخضار الحاج عباس الشامي فقد كان كما يقول الزبيدي : " من أفضل البقالين في تعامله مع الناس فهو العالم الورع والفقيه وشيخ القراء ، لم يكن معمماً لكن المراجع في النجف الأشرف أجازوا له الإفتاء وامامة المصلين في جامع السادة ، وكنتُ أشاهد الكثير من طلبة الدراسات العليا في اللغة والعلوم الإسلامية يزورونه في محله للاستفادة من معلوماته وكان يقدم لهم المساعدة وينقح لمن يحتاج التنقيح على رسالته أو أطروحته " . ومن أبواب الكرم الكاظمي حكاية صياد السمك سيد هاشم الشديدي أبو عدنان :  " وقد اصطاد مرة بالخيط والشص سمكة كبيرة وجاء بها إلى البيت واضعاً رأسها على مقود الدراجة الهوائية وذيلها يخط بالأرض خلف الدراجة ، ولم يبعها السيد هاشم بل وزعها على الجيران قطعة قطعة .. كان ذلك في العام ستين ، ومن التقاليد الشعبية أن عوائل الكاظمية تأكل السمك يوم الأربعاء وذلك حسب الموروث الشعبي أن فيه مجلبة للرزق " . وفي مهنة الوسطاء العقاريين أو الدلالين تحضر شخصية الحاج يحيى حسن اغا الأودجي ، الذي كان يطلق عليه تسمية ( الطابو المتنقل ) لبراعته في معاملات تقسيم الأرث والمناسخات والافرازات وتصحيح الجنس وكانت دائرة طابو الكاظمية تستعين به لترجمة السندات العثمانية ، وقد أنجز معاملة مناسخة فيها مائة قسام وبطول 8 أمتار بلغت ارقامها 32 مرتبة : " ومن المفارقات انه في العام 1971 اشترى حاسبة لكي يرتاح من العمليات الحسابية استخدمها ليومين فقط وطلب ممن معه في المكتب رفعها قائلاً ( شيلوهة اذا ما أحسب بيدي ما أرتاح وما أصدك الحاسبة ) ! .

وبعد ، فمن الصعوبة ايجاز كل تلك المعلومات والحكايات التي وردت في كتاب " شذرات من تراث الكاظمية في القرن العشرين " لكن لابد من الإشارة إلى مختاري محلاتها القديمة ، الدبخانة الشيوخ والتل والمدامغة والقطانة ، ومنهم آخر مختار لمحلة القطانة قبل الاحتلال الأمريكي الشهيد عبد الرزاق عبد الأمير الزبيدي ، شقيق المؤلف ، وهو أيضاً صاحب مكتبة العراق الجديد في باب الدروازة ، وقد أغتيل غدراً ، فترك ندباً دامياً في قلب كل من عرفه لما يمتلكه من طيبة وأريحية ونبل وكرم وشهامة هي من صفات أهل الكاظمية الأصلاء .

في تعامله مع الناس فهو العالم الورع والفقيه وشيخ القراء ، لم يكن معمماً لكن المراجع في النجف الأشرف أجازوا له الإفتاء وامامة المصلين في جامع السادة ، وكنتُ أشاهد الكثير من طلبة الدراسات العليا في اللغة والعلوم الإسلامية يزورونه في محله للاستفادة من معلوماته وكان يقدم لهم المساعدة وينقح لمن يحتاج التنقيح على رسالته أو أطروحته " . ومن أبواب الكرم الكاظمي حكاية صياد السمك سيد هاشم الشديدي أبو عدنان :  " وقد اصطاد مرة بالخيط والشص سمكة كبيرة وجاء بها إلى البيت واضعاً رأسها على مقود الدراجة الهوائية وذيلها يخط بالأرض خلف الدراجة ، ولم يبعها السيد هاشم بل وزعها على الجيران قطعة قطعة .. كان ذلك في العام ستين ، ومن التقاليد الشعبية أن عوائل الكاظمية تأكل السمك يوم الأربعاء وذلك حسب الموروث الشعبي أن فيه مجلبة للرزق " . وفي مهنة الوسطاء العقاريين أو الدلالين تحضر شخصية الحاج يحيى حسن اغا الأودجي ، الذي كان يطلق عليه تسمية ( الطابو المتنقل ) لبراعته في معاملات تقسيم الأرث والمناسخات والافرازات وتصحيح الجنس وكانت دائرة طابو الكاظمية تستعين به لترجمة السندات العثمانية ، وقد أنجز معاملة مناسخة فيها مائة قسام وبطول 8 أمتار بلغت ارقامها 32 مرتبة : " ومن المفارقات انه في العام 1971 اشترى حاسبة لكي يرتاح من العمليات الحسابية استخدمها ليومين فقط وطلب ممن معه في المكتب رفعها قائلاً ( شيلوهة اذا ما أحسب بيدي ما أرتاح وما أصدك الحاسبة ) ! .

وبعد ، فمن الصعوبة ايجاز كل تلك المعلومات والحكايات التي وردت في كتاب " شذرات من تراث الكاظمية في القرن العشرين " لكن لابد من الإشارة إلى مختاري محلاتها القديمة ، الدبخانة الشيوخ والتل والمدامغة والقطانة ، ومنهم آخر مختار لمحلة القطانة قبل الاحتلال الأمريكي الشهيد عبد الرزاق عبد الأمير الزبيدي ، شقيق المؤلف ، وهو أيضاً صاحب مكتبة العراق الجديد في باب الدروازة ، وقد أغتيل غدراً ، فترك ندباً دامياً في قلب كل من عرفه لما يمتلكه من طيبة وأريحية ونبل وكرم وشهامة هي من صفات أهل الكاظمية الأصلاء .

تعليقات

أحدث أقدم