عند نهر جاسم

مشاهدات

 


د . ظافر العاني 

( لذكرى صديقي منصور الكرخي وابطال الوحدة 2706 )

منصور اصغر الجنود الذي إلتحق في بطريتنا . البطرية الانبوبية الخفيفة الخامسة . شاب من بعقوبة دون العشرين من عمره . ولأنه يتيم ووحيد أمه على ثلاث بنات فقد لاحظ الجميع ان سلوكه كان يشي بأنه فتىً مدلل لم يعرف التعب في حياته فاحتضناه كأخ صغير خصوصا وان معظم جنود البطرية كانوا من الخريجين ومن حملة الشهادات العليا والجنود الاحتياط الكبار في السن نسبيا فنشأ منصور بيننا مدللاً استكمالاً للدلال الذي عاشه في بيتهم .

ولأنه وحيد أمه ظل ينتظر إكمال معاملة إعفاءه من الخدمة العسكرية فقد كان هنالك قرار يقضي باعفاء الولد الوحيد لأهله من الخدمة . وكان يقول لنا بمرح طفولي : انا ضيف عندكم كلها ايام واعود الى أمي . لم نكلف منصور بالمهام القتالية وانما بالشؤون الادارية وببعض الاعمال البسيطة مما يناسبه .

في أول اسبوع له كان يسأل إذا كان هنالك أحد يغسل او يكوي ملابسه مقابل أجر لأنه غير معتاد على ذلك ولما رآنا نضحك من فكرته عرف بان لاوجود لمثل هذا الدلال في الجيش . فاضطر ان يغسل ملابسه بنفسه وفي غالب الاحيان كان كلما اتسخت ملابسه يشتري من الحانوت العسكري بدلة جديدة ولما سألته عن السبب قال لي : ستزعل أمي لو رأتني أغسل ملابس بنفسي .

لم استغرب من رهافة حسه وحبه لأمه .

يوماً ما اقترح عليه الآمر ان يعمل مراسلاً عنده ولما سألنا عن واجبات المراسل قلنا له انه الشخص الذي يقوم على خدمة الآمر ويهيء له احتياجاته الشخصية . وقد ارتحت عندما رأيت الانزعاج على وجهه وأنفته من هذا العمل فذهب للآمر وقال له : اعتذر سيدي . قال له الآمر : يامنصور انت غير مدرب على العمل العسكري وهذا مكان آمن لك . فرد عليه من جديد : أعتذر سيدي . فتبسط الآمر في الكلام معه محاولا إقناعه : منصور انت فتى أمين وتربيتك عالية وستحصل مني على اجازات اكثر من زملائك لتزور عائلتك . فرد منصور بحزم لايتناسب مع هيئته : أعتذر سيدي .

سأله الآمر بروح الأب : لماذا ؟
فقال وقد رق كلامه : سيدي ،،، لأن أمي ستزعل لو عرفت ذلك .
تفهم الآمر وضع منصور فأعفاه من المهمة .

صباح اليوم التالي ذهب منصور الى البصرة في إجازة زمنية كي يتصل بأمه من هاتف البدالة العمومي ليطمئنها عليه وقد عاد فرحاً بعد ان عرف بان كتاب اعفائه سيصدر خلال يومين فهي تتابع موضوعه بين الدوائر العسكرية بنفسها .

سألته ممازحا : يبدو انك زعلان منا وتريد ان تتركنا .

فقال على عجل : لا والله كيف تقول ذلك وانتم اخوتي الكبار ولكني لا اريد ان تزعل مني أمي . كان ذلك في العام 1986 وكانت وحدتنا عند نهر جاسم في البصرة ومواضعنا الحصينة كانت بين البساتين التي استحالت الى أرض جرداء بفعل القنابل وصواريخ الراجمات ومغادرة اصحابها الذين نزحوا عنها خوفا على حياتهم .

كان منصور يومها ذاهبا الى سيارة الإيفا التي تعمل كحانوت متنقل بين الفصائل ليشتري لنفسه بدلة جديدة بدل التي اتسخت وهو يقول لي : ظافر بعد يومين سيصلني كتاب الإعفاء وعلي ان استعد للقاء أمي على أفضل حال .

بعد دقائق جاءت رشقات من صواريخ الراجمات استهدفت موقعنا فلذنا بالمواضع إتقاء للشظايا ولما هدأ القصف ركضنا نستطلع وضع اخواننا فقد كان يصلنا انين الجرحى واستنجادهم بنا ولما وصلت الى منصور وجدته ممدا على الارض وإلى جواره بدلته العسكرية الجديدة بينما شظية كبيرة قد شجت رأسه من الأعلى وانفتحت الجمجمة على داخلها . لم أسمعه يئن من الألم لكني لاحظت دمعة تترقرق في عينيه . أمسكت يده محاولا تشجيعه للصمود وانا انادي على المضمد الصحي سعد .

قال لي : لا داعي ياظافر انا سأموت .
قلت له : لاتقل هذا ستكون بخير ان شاء الله .
نزلت قطرات الدمع التي اختلطت بدمائه فقال لي جملته الاخيرة :
لست ابكي على نفسي . انا حزين لأني لو مت ... ستزعل أمي .



تعليقات

أحدث أقدم