شيء من مكر التاريخ ومراوغاته

مشاهدات




عبد اللطيف السعدون


التاريخ ماكر ومراوغ  القول لهيغل والمناسبة صدور كتاب جديد يلقي الضوء على شخصية الرئيس الراحل صدّام حسين ويكشف عن قدرٍ يبدو محسوبا من أسرارٍ غير معروفة تخصّ ساعات حرجة في حرب الكويت وتفضح  ربما لأول مرة كيف لعبت دوائر معلومة دورا مشبوها في إفشال خطةٍ لانسحاب القوات العراقية من الكويت وكان الغرض تعريض العراق لحربٍ شرسةٍ  وتدمير بنيته التحتية وهذا الذي حدث . الكاتب نديم الياسين  والكتاب هو أربعون عاما مع صدام حسين ثمانية منها قضاها المؤلف في علاقة يومية ومباشرة مع صدّام بحكم كونه رئيس المراسم في رئاسة الجمهورية سبقتها ثلاثة عقود من العمل معا في التنظيم الحزبي أو في إقامة مفروضة عليهما في أكثر من سجن ومعتقل وبعض من حصيلة الأربعين سنة سطره الياسين في هذا الكتاب .  لكن ما يعنينا هنا الوقائع المتعلقة بحرب الكويت والتي جهد أن يكون موضوعيا في توثيقها بعيدا عن الهوى، كما قال .


من بعض تلك الوقائع المحيرة أن الياسين سمع صدّام وهو يرد على الأمين العام للأمم المتحدة، خافيير دي كويلار الذي جاء إلى بغداد في مهمة الساعة الأخيرة وطلب جوابا صريحا ومباشرا فيما إذا كان صدّام مستعدا لسحب جيشه : كل شيء ممكن إذا حسنت النوايا وليس هناك شيء مستحيل اعتبر الياسين تلك العبارة انفراجا هائلا للأزمة  لكن دي كويلار خيب الآمآل إذ قال شيئا مختلفا عندما حطّ في باريس في طريق عودته إلى نيويورك : مهمتي فشلت وصدّام يرفض الانسحاب  بذلك فتح أبواب الجحيم على مصاريعها .  يلمح الياسين وإن لم يقلها إلى أن ثمّة من أشار على دي كويلار بإنكار موقف صدّام  كي يتيح للأميركيين تحقيق غرضهم في تدمير العراق  وربما كان هناك تواطؤ مقصود  ذلك أنه ما أن وصل تصريح دي كويلار إلى مسامع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران الذي كان خطّط لزيارة بغداد  إذا ما لمس مرونة لدى صدّام في تقبل فكرة الانسحاب حتى أدرك أن مهمته هي الأخرى ستفشل ما يثلم هيبته وهيبة بلده  فقرّر إلغاء الزيارة التي لو كانت قد حدثت لربما حققت اختراقا في الأزمة .. من يدري !



أما موسكو فقد كانت على خط الأزمة منذ البداية والرئيس السوفياتي غورباتشوف كان يطلع على الموقف أولا بأول عين على واشنطن وعين على بغداد ولكن واشنطن لم تعط بغداد مهلة جديدة لتقرير الانسحاب بل إنها استعجلت تنفيذ خطة الحرب وانهالت الصواريخ على بغداد  وملأت الطائرات السموات العراقية  لم ييأس غورباتشوف بعث دبلوماسيا ورجل مخابرات محنكا هو يفغيني بريماكوف (رئيس وزراء فيما بعد) ليستجلي وسط النار آفاقا جديدة للحل بعد بضع ساعات حطّ طارق عزيز في موسكو مبعوثا من الرئيس صدّام لكن الرئيس الأميركي جورج بوش  واصل حربه المقدسة ضد العراق وأصبح الطريق مسدودا تماما أمام أي مسعى إلى الحل وظهر أن السيناريو الأميركي وحده الغالب. .. في اليوم التالي كان صدّ من بعض تلك الوقائع التي يستنطقها نديم الياسين أيضا توافد القادة العرب على بغداد يلتمسون موقفا ينقذ العراق والعالم العربي كله من حربٍ لا تبقي ولا تذر : الأميركيون سيضربونكم من دون أن تروهم  يومها كان القادة العرا قيون يراهنون على مواطنيهم  الذين سيلقنون الأميركيين درسا قاسيا لن ينسوه لا أحد من القادة العراقيين فهم اللعبة الشريرة باستثناء طارق عزيز الذي حذّر من مغبة ما سيحدث : هاجمني بعض رفاقي في القيادة بسبب موقفي هذا (الانسحاب) وعدّوه ضعفا.. الله وحده يعلم النتيجة .



نقل المؤلف كل تلك الوقائع بحيادية ولم يعط موقفا منها إلا أن القارئ يستشفّ أن القيادة العراقية كانت غائبة تماما عن حركة العالم ومجريات الأحداث في ميزان القوى الدولية وهي في غيابها اللافت تتصوّر الأماني التي تدور في ذهنها حقائق مجسّدة وهذا ما دفع إلى التعنت والمكابرة ورفض أية حلول للأزمة وحتى الحجج التي كان يسوقها صدّام في تبرير موقفه إغراق الكويت الأسواق العالمية بالنفط وانعكاس ذلك سلبا على العراق وتجاوزها حقول الرميلة وتحكّمها بالمنافذ البحرية لا ترقى إلى أن تقود إلى التفكير بغزو بلد عربي مجاور وكان بالإمكان استخدام الدبلوماسية حتى آخر لحظة وتجنّب تحويل المنطقة إلى بؤرة حربٍ إقليمية وربما عالمية .


هنا التاريخ يمكر ويراوغ  وهذا الذي حدث .



المصدر : العربي الجديد

تعليقات

أحدث أقدم