ما بعد العدوان على غزّة

مشاهدات




إياد الدليمي


بعد أكثر من عشرة أيام على انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزّة صمتت أصوات طائرات إف 16 والزنانة ولم تعد تُسمع أصوات صوارخ المقاومة الفلسطينية وهي تحلّق فوق رؤوس الإسرائيليين معلنة عن توقف المعركة من دون أن تتمكّن آلة الحرب الإسرائيلية المدمّرة من تحقيق نتائج كثيرة ما خلا شيئًا واحدًا يتكرّر في كل منازلة وهو عدم قدرة تلك الآلة المدمّرة على سحق إرادة شعبٍ يؤمن بحقه في أرضه ووطنه التاريخي فلسطين الممتدة من البحر إلى النهر .  ولعل ما سيتبع هذا العدوان قد يكون أخطر بكثير من العدوان ذاته بعد أن استشعرت حكومة تل أبيب ودهاقنة بني صهيون حجم الكارثة التي وجدوا أنفسهم قد تورّطوا فيها وهم يحتفلون بالذكرى الثالثة والسبعين لإنشاء كيانهم على أرض فلسطين العربية .


خلّفت معركة العدوان على غزّة معطياتٍ جديدة فالمعركة وإنْ لم تشهد نهاية هذا العدو واحتلاله ولا يمكن لها أن تفعل ذلك وسط مواجهةٍ غير متكافئة بين واحدةٍ من أقوى الدول تسليحا وقوة وقطاع محاصر يعيش فيه قرابة المليوني نسمة لا يملك من رفاهية الجغرافيا حتى ما يمكّنه من تجربة سلاحه البسيط المتواضع . ولكن هذه المعركة شهدت حالة أخرى أعمق وأعقد من أي انتصار وقتي قد يحققه السلاح  وهو ما قد يجبر دولة الاحتلال على صياغة آليات جديدة للتعامل مع الواقع المربك بالنسبة لها . ربما هي المرة الأولى منذ اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987 التي يجد الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج نفسه يخوض المعركة نفسها، المرّة الأولى التي يجد فيها هذا الشعب منذ سنواتٍ خلت بأنه كيان واحد بلا انقسام حزبي ولا انقسام أيديولوجي المرّة الأولى التي تنهض فيها مدن الداخل الفلسطيني رافعةً لواء المقاومة في متغيّر يدرك دهاقنة إسرائيل حجم  تأثيره وخطورته عليهم . يعيش في الداخل الفلسطيني قرابة المليوني نسمة يشكلون ما نسبته نحو 20% من سكان دولة الاحتلال الإسرائيلي التي راهنت عقودا على ضرب عصبهم الحيوي المتمثل بالانتماء لدولة فلسطين وسط اعتقاد بأن الأجيال الجديدة ستنسى فلسطين غير أن ما شوهد خلال العدوان أخيرا على غزّة أن هذه الأجيال ربما أكثر تمسّكا بفلسطينها الوطن من أجيال النكبة والنكسة التي شاخ وانقرض بعضها وسط قنوط ويأس . هذا الداخل الفلسطيني ربما هو أكثر ما تخشاه إسرائيل وربما هو الذي أيقظ جذوة الصدمة لدى الداخل الإسرائيلي أكثر بكثير من صواريخ حركة حماس التي شكلت هي الأخرى مفاجأة غير سارة لدولة الاحتلال بعد أن غطت كل الأراضي المحتلة وعطّلت للمرة الأولى ربما منذ عام 1991 مطار بن غوريون وسط هلع وشعور نفسي لشعب دولة الاحتلال بالانهزام حالة نفسية يمكن لها أن تتجذّر في مقبل الأيام إذا استثمرت الفصائل الفلسطينية المختلفة ذلك جيدا .


بالنسبة للمقاومة الفلسطينية المسلحة وفي مقدمتها حركة حماس يمكن القول إنها قد بلغت سن الرشد وحماس اليوم تختلف عن التي فازت بانتخابات 2006  وعن التي واجهت عدوان 2014  فقد صارت أكثر وعياً ونضجاً في تعاطيها مع الواقع  سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو الداخل أو حتى مع محيطها العربي والإسلامي ما يؤكد من جديد أن صدى المقاومة ربما لن يكون من السهل احتواؤه في الفترة المقبلة  وربما سيشكل بالإضافة إلى وعي الداخل المحتل أخطر المتغيرات التي سيكون على دولة الاحتلال مواجهتها في الفترة المقبلة . الآن وفي ظل هذه المتغيرات لا يبدو أن حكومة الاحتلال ستترك الأمور حتى تتفاقم وهو ما بدا واضحا في سلسلة تحرّكات بدأتها الدول الغربية الداعمة لدولة الاحتلال وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا وحتى الولايات المتحدة تحرّكات تهدف إلى تمييع القضية الفلسطينية من جديد. وقد لا يكون مستغربا أن نشهد في الفترة المقبلة اعترافا وتفاوضا مباشرا مع حماس باعتبارها جزءًا من الحل، كما صرح بذلك مسؤول في الاتحاد الأوروبي قبل أيام  وقد نشهد أيضا تدفقا للمساعدات الدولية إلى القطاع المحاصر وهو ما صرّح به الرئيس الأميركي جو بايدن على الرغم من تأكيده على عدم الاعتراف بحركة حماس المصنفة على لائحة الإرهاب الأميركية .  وسيكون لمصر دور أكبر في احتواء حماس وفصائل المقاومة وهو دور بدا واضحا في الاتصال الذي أجراه الرئيس الأميركي جو بايدن خلال العدوان بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وهو أول اتصال به منذ دخول بايدن البيت الأبيض قبل أشهر .على حماس وبقية الفصائل المقاومة وأيضا على كل الحركات العربية في الداخل الفلسطيني المحتل أن يكونوا على قدرٍ من الوعي أمام مخطّطات تفتيت ما التحم أخيرا في أثناء العدوان على غزّة. 


وأيضا على الشعوب العربية أن تبادر هي الأخرى إلى مواصلة حالة الالتحام مع قضية فلسطين لتفويت الفرصة على بعض الأنظمة العربية التي يبدو أنه ستقع على عاتقها مهمة تفتيت جبهة فلسطين وتمييع قضيتها مرة أخرى . أخطر معركة نخوضها في ما يتعلق بقضية فلسطين وربما في مجمل قضايانا الأخرى هي معركة الوعي . لذلك لا بد من إعادة تموضع شعبي تستفيد من زخم ما تحقق خلال عشرة أيام من العدوان على غزّة وتستثمر كل الإمكانات المتاحة لعرض القضية الفلسطينية من جديد وإدامة الزخم الشعبي الذي وصل إلى لندن ونيويورك وباريس وبشكلٍ برهن من جديد على عمق المأزق الذي يمكن أن تعيشه دولة الاحتلال الإسرائيلي إذا تم استثمار أدوات أخرى للصراع  بالإضافة طبعا إلى سلاح المقاومة .


المصدر : العربي الجديد




تعليقات

أحدث أقدم