حربان أميركيتان على العراق . هل كان يمكن تلافيهما؟

مشاهدات

 



داود الفرحان

بعد أكثر من 30 عاماً على حرب الكويت بقيادة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ما زالت أسرار كثيرة لم يُكشف عنها النقاب على الرغم من سيل الكتب التي صدرت والأفلام السينمائية التي عُرضت . وما يُقال عن هذه الحرب يُقال أيضاً عن حرب أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق في عام 2003 بقيادة جورج بوش الابن.

بين يديّ كتاب ضخم بأكثر من 750 صفحة من الحجم الكبير أصدره في القاهرة في شهر مارس (آذار) الماضي الدكتور نبيل نجم سفير العراق الأسبق لدى اليونان ومصر وفيتنام. عنوان الكتاب «قصة الأمس» المقتبس من عنوان أغنية شهيرة لأم كلثوم. وهو مذكرات شخصية تُعزز أهميتها أن السفير كان شاهد عيان على ما حدث في الحربين المدمرتين وما وراء الكواليس.

يعلم كثيرون أن هناك جهوداً دولية بذلت كل ما في وسعها لإقناع الولايات المتحدة بعدم اللجوء إلى الحرب سواء في «تحرير الكويت» أو في «احتلال العراق». لكن قليلين يتذكرون أن وفداً أميركياً من الكونغرس برئاسة السيناتور روبرت دول زار العراق في أبريل (نيسان) 1990 قبل دخول الجيش العراقي إلى الكويت في أغسطس (آب) من العام نفسه واجتمع الوفد مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في مدينة الموصل.

يعتبر روبرت دول من أبطال الحرب العالمية الثانية وتم انتخابه عضواً في مجلس النواب ثم مجلس الشيوخ وسبق له الترشح لرئاسة الجمهورية أمام بيل كلينتون الذي فاز بسهولة بالمنصب لأن روبرت دول لا يجيد العلاقات العامة ولا فن الخطابة. ولذلك فإن اختياره رئيساً لوفد الكونغرس لمقابلة الرئيس العراقي صدام حسين كان محكوماً عليه بالفشل خاصة أن مهمته كانت دقيقة وحساسة حول أسلحة الدمار الشامل. ولتلافي الحوار المباشر مع الرئيس العراقي اختار دول أن يقدم لصدام حسين رسالة مكتوبة موقعة من أعضاء الكونغرس الخمسة جاء فيها كما ورد في كتاب «قصة الأمس»: «عزيزنا السيد الرئيس إن وفدنا يمثل الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة انطلاقاً من قناعتنا أن العراق يضطلع بدور رئيس في الشرق الأوسط وبما أننا نرغب في أن نشهد تحسناً في العلاقات الثنائية بين بلدينا فمن الواضح أننا لن نتمكن من حل الخلافات الخطيرة القائمة بيننا إذا أهملناها أو أخفقنا في الاستفادة من الفرص المتاحة أمامنا بالاتصال الواضح والصريح ولهذا السبب نعتقد أنه من المهم أن تسمعوا قلقنا العميق جداً بشأن سياسات معينة لحكومتكم التي تمثل حاجزاً كبيراً أمام علاقات متطورة بين بلدينا».

لم تكن مشكلة الكويت قد حدثت بعد وكانت واشنطن مهتمة بـ«أسلحة الدمار الشامل» المزعومة. لذلك عندما استفسر السيناتور دول من رئيس العراق: «هل لديكم أسلحة بيولوجية؟ قال صدام لا توجد لدينا هذه الأسلحة ولكن لدينا أسلحة كيماوية». في نهاية الاجتماع لخص الرئيس العراقي العلاقات العراقية – الأميركية بقوله: «أنتم قلقون من أخبار تصلكم عن العراق وسياساته. نحن أيضاً قلقون من أخبار تصلنا من الولايات المتحدة وسياسات تنتهجونها» وقبل أن يقف الرئيس العراقي استفسر السيناتور دول من الرئيس صدام هل هناك أي رسالة يمكن أن ينقلوها منه إلى الرئيس بوش الابن؟ ردّ الرئيس العراقي: «سلموا لي عليه»!

أريد أن أوضح هنا لأول مرة أن العراق هو الدولة العربية الوحيدة التي لم يقم ملوكها ورؤساؤها بزيارة الولايات المتحدة منذ بداية العهد الملكي في عام 1921 (الملك فيصل الأول والملك غازي والملك فيصل الثاني) إلى الحكم الجمهوري 1958 - 2003 (عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين). لكن كل الرؤساء العراقيين ورؤساء الوزراء في زمن الاحتلال الأميركي والاستيطان الإيراني منذ 2003 حتى اليوم زاروها مرات كثيرة وبعضهم يحمل الجنسية الأميركية. كما أن أي رئيس أميركي لم يقم بزيارة العراق في العهدين الملكي والجمهوري. لكن الرئيس جورج بوش الابن كان أول رئيس أميركي يزور العراق وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 لتفقد قوات الاحتلال الأميركي وكرر الزيارة 3 مرات أخرى في 2006 و2007 والأخيرة في 2008 التي شهدت حدثاً ميّزها عن زياراته السابقة حين قذفه أحد الصحافيين العراقيين بحذائه خلال مؤتمر صحافي. وكان الرئيس باراك أوباما هو الرئيس الأميركي الثاني الذي زار العراق مرة واحدة في عام 2009 واستغرقت الزيارة 4 ساعات فقط ولم تتعدَ حدود قاعدة فيكتوري (النصر) قرب مطار بغداد الدولي. أما الرئيس السابق دونالد ترمب فقد كان الوحيد الذي اصطحب معه زوجته ميلانيا في زيارة لقاعدة عين الأسد في نهاية عام 2018 لم يعلم بها رئيس الوزراء العراقي في حينه عادل عبد المهدي إلا من قناة تلفزيونية أميركية ولم يجرِ فيها أي لقاء رسمي مع أي مسؤول عراقي!

وهذا يعني أن كل ملوك العراق ورؤساء الجمهورية قبل الاحتلال الأميركي لم يبادروا بدعوة رؤساء الولايات المتحدة لزيارة بغداد وفي الوقت نفسه لم يوجه أي رئيس أميركي الدعوة إلى أي حاكم عراقي لزيارة واشنطن. فلم تكن العلاقات بين البلدين في أي عهد سبق عام 2003 وثيقة أو مميزة مثلما هي بين الولايات المتحدة ودول الجوار.

حتى في ذروة أزمة الكويت والعراق كان الاتصال المباشر الوحيد بين العراق والولايات المتحدة ليس في بغداد ولا في واشنطن وإنما في فندق «الإنتركونتيننتال» في جنيف يوم 9 يناير (كانون الثاني) 1991. ولهذا الاجتماع بين وزير خارجية العراق طارق عزيز ونظيره جيمس بيكر قصة غريبة لم تحدث من قبل ولا من بعد. فقد أخرج بيكر ظرفاً صغيراً من ملف معه وقال لعزيز إن الرئيس جورج بوش الأب طلب أن أسلمك هذا الخطاب لتسلمه بدورك إلى رئيسك. وتناول عزيز الظرف ووضعه أمامه على الطاولة لكن بيكر طلب منه أن يقرأه ففتح الظرف وقرأ الرسالة التي ورد فيها: «إننا نقف اليوم على حافة حرب بين العراق وبقية العالم . وهذه حرب بدأت بغزو الكويت ويمكن أن تنتهي فقط بانسحاب عراقي كامل وغير مشروط وفق قرار مجلس الأمن . إن ما هو مطروح الآن ليس مستقبل الكويت فالكويت سيتم تحريرها ولكن المطروح هو مستقبل العراق. وهو خيار متوقف أمره عليك».

أعاد طارق عزيز الرسالة إلى مكانها على الطاولة قائلاً: «لا أستطيع أن أقبل هذه الرسالة ولا أستطيع نقلها لرئيسي لأن لهجتها ليست من رئيس دولة إلى رئيس دولة أخرى» كان العالم كله ينتظر نتائج هذا الاجتماع وتوقعت الإدارة الأميركية أن يستغرق نصف ساعة إلا أنه امتد إلى 6 ساعات.

وبقي من ذلك الاجتماع ظرف على الطاولة وعليه اسم الرئيس صدام حسين. ثم استقرت رسالة بوش في خزانة الفندق الفخم تحت بند «متعلقات نزلاء تعاد إليهم حين الطلب». ولم يطلبها أحد حتى ساعة كتابة هذا المقال!

شكراً للسفير العراقي نبيل نجم على كتابه المرجعي المهم الذي ضمّ فصولاً خطيرة عن دهاليز السياسة وأسرارها ونفسها الطويل.

تعليقات

أحدث أقدم