خان النُص

مشاهدات

 



فائزة محمد علي فدعم


في صباح يوم جميل تذكر والدي اصدقاءه في بغداد وهُم من تُجار الجُملة في سوق دانيال على ما اذكر وقرر ان يذهب لزيارتهم فتوسلت به ان يأخذني معهُ فوافق . على شرط ألا ارتكب اي شقاوة فأعطيته وعدا وأصريتُ على ان نُسافر في الباص الخشبي كوني احبه وفي اليوم التالي خرجنا فجرا بعد الصلاة . كما قال والدي (على برد الوكت) دخلنا الباص الواحد بعد الاخر وبعد تبادل كلمات الترحيب والسلام دفع أبي اجرة بعض الركاب الذين كان يعرفهم حسب عادات وتقاليد اهالي بعقوبة ومن ضمنهم الرجل الذي يُلقب ( المَصوي ) لضعف بنيته وهزال جسده فقد كان وجهه شاحباً مُصفر ويرتدي عرقجين ويشماغ ودشداشة فيها اكثر من رقعة وحزام مُهترئ . كان صاحب السكلة القريبة من دارنا ( السكلة هي المكان المُخصص لبيع مواد البناء ) قد اعد له سكنا . هو عبارة عن حجرة صغيرة في سبيل الله فقد كان عمله البحث عن ( الصفر. اي النحاس ) من اجل بيعه في سوق الصفافير لتدويره وكان هذا الرجل النحيل يجوب بعقوبة والقرى المُجاورة مشيا على الاقدام لجمعه وله سِنًّا ذَهبياً واحداً لم يَزدهُ جمالا وانما اعطاهُ بسمة مُخيفة وكان يلبس في قدميه كالة بيضاء صنع الشمال ( حذاء خفيف يصنعهُ ويرتديه الاكراد ) وقد انقلب لونها الى الرمادي لقدمها . وضع (المصوي) بضاعتهُ امامه فقال له احد الركاب : هل انت نعسان ؟


فأجابهُ بنعم وقال : لقد داهمَتني طيلة الليل البراغيث ولم استطع النوم . اتخذت مكاني قرب الشباك وجلس ابي الى جواري وتحركت السيارة بين البساتين التي كانت تُحيط بمدينة بعقوبة وفي طريقنا رأينا بعض الاشخاص الذين كان اكثرهم يمتطون الحمار وبيد احدهم مفتاح خشبي يُستخدم لفتح باب البستان يركل به مُؤخرته حتى يُسرع في المسير وعليه في المُقدمة يُثبت زنبيل من الخوص لوضع المحصول فيه وانا واقفة ومُمسكة بالشباك واتفرج وأشمُ رائحة البُرتقال المَمزوجة برائحة روث الحيوانات المُستعمل كأسمدة ثم عبرنا الجسر الى العاصمة . الذي يُسمى الان طريق بعقوبة _ بغداد القديم او خان النص او بني سعد فما كان من والدي الا ان وضع سترتهُ على ركبتهُ واستغرق في النوم فضجر (المصوي) من الصمت المُطبق في الباص فوقف في وسطه ورمى اليشماغ وقال :


 رددوا معي وبدأ يُغني المُربعات البغدادية التي كُنا نسمع اكثرها في رمضان مع لعبة المحيبس المقامة بين محلة واخرى وصواني الزلابية والبقلاوة وشربت النكوع ومشروب السيفون او النامليت بألوانه الزاهية التي تجلب من معمل عصير السعيد ( صاحبه السيد هادي السعيد(  وبحركات جميلة من يديه وراسه كان يقول رمضان سابيني سبي واني اريد اجي ) ويُردد الركاب ماخلوني هلي ) الى اخره . وبعد المرح والضحك والانشراح ادركهُ التعب ثم غلبهُ النوم حتى وصلنا الخان الذي كان جميلا جدا .


باحتهُ واسعة ومُحاط باللواوين جمع ( ليوان ) التي كانت عامرة في ذلك الوقت ويقوم الباعة والمُستأجرين بنقل البضائع من كل المناطق المُجاورة وبالعكس وهو أيضا محل استراحة للركاب من اجل تناول الاطعمة او التزود بالوقود او تبريد مُحركات السيارات بالماء . وكل ليوان كان فيه اما حصان مربوط او حمار او بضاعة او عائلة للاستراحة او ( جت ) موضوع بكميات كبيرة علفا للحيوانات وكل رجل يقف امام بضاعته . استوقفني بائع الفشافيش ( رئة الخروف ) والدبور الاحمر يقف عليها فيقوم صاحب العربة بطرده بمَنشة مصنوعة من اوراق الصحف المرصوفة واحدة جنب الاخرى بطريقة جميلة عند استعمالها تصدر صوت مُحببا وأيضا بائع الجُمّار فقلت لوالدي اشتري لي . اعطاني البائع قطعة منه فقلت : لا اريد قطعة . بل اريدهُ كاملا فقال ( بدينا يا ستار) وبعد الحاح مني فهم الرجُل وقال لا ابيعهُ كله انما قطع فقط وبعد ان شرب والدي الحامض في مقهى صغير للاستراحة خرجنا لإكمال السفر وكان الطريق جميلاً ومُقفراً في نفس الوقت حيث لا حركة فيه الا من بعض الحيوانات او رعاة الغنم وقليل من سيارات الركاب او الحمل او حيوان الارول وهو يعبر الشارع ويخرج من بين الحشائش او اصوات عصافير وبعض الدراج الذي يطير بين الحين والاخر وعلى جانب الطريق قبل الوصول الى بغداد رأيت ابراج حديدية مُرتفعة تعلوها قطعة كبيرة مرسومة بالوان جميلة وهي اعلانات لبعض السلع في ذلك الزمان مثلا شامبيون او إطارات كودير او شركة الطحان والاسدي او فتاة تحملُ غالونا من الزيت او قنينة مكتوب عليها شركة الزيوت النباتية المَحدودة فأعجبتني وقرصت الوالد من ذراعه بقوة فوقف من شدة الالم وهو يتحسس يده وقد خجل من الركاب واعتذر فقلت لهُ انظر . اريد ان تشتري لي واحدة منها وأشرتُ الى لوحة الاعلانات فقال : في صبر عجيب ( يصير خير ) التفت له احد الركاب وقال له ( والله ياحجي لو عندي بنية مثلها الا ارميها من السيارة ) ابتسم رحمه الله ثم قال لي عند عودتنا الى بعقوبة افكر بالأمر ونشتري لك واحدة ونضعها عند عتبة الدار ونضع صورتك عليها ونكتب ( الصبر جميل(  وهذه الحكمة لن انساها ما حييت ...


تعليقات

أحدث أقدم