عندما تخرج اللعبة عن السيطرة

مشاهدات

 


د . يحيى الكبيسي 

في سياق المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية في العراق حدث تطوران خطيران في الأسبوع الأخير سيكون لهما تأثير كبير في مسار هذه المواجهة . تمثل الأول في إعلان المديرية العامة لمكافحة الإرهاب في إقليم كردستان إلقاء القبض على أحد أفراد المجموعة التي وقفت وراء قصف مطار أربيل مساء الأثنين 15 شباط/ فبراير الماضي وقتل فيه متقاعد اجنبي وجُرح خمسةُ جنود أمريكيين ومواطنان مدنيان إثنان . وقد اعترف المتهم وأدلى بتفاصيل عن الهجوم .

لكن أهم ما جاء في البيان هو الحديث عن مشاركة نتائج التحقيق مع المؤسسات الأمنية في الحكومة الاتحادية والتحالف الدولي الذي أفضى إلى إلقاء قوات الأمن العراقية القبض على متهم آخر من منفذي الهجوم . وقد تم بث اعترافات متلفزة للمتهم قال فيها إن «كتائب سيد الشهداء» هي التي كانت وراء العملية، وأنهم كانوا يديرون العملية من الموصل .

في صباح اليوم نفسه الذي صدر فيه البيان المتعلق بنتائج التحقيق بقصف أربيل شهدت محافظة الانبار تطورا لافتا باستهداف قاعدة عين الأسد والتي كان يفترض أنها محصنة ضد أي استهداف بسبب موقعها الجغرافي، وهي المرة الأولى منذ أيار/ مايو 2019 تاريخ الإطلاقة الأولى في المواجهة الأمريكية ـ الإيران ية في العراق نشهد استخداما لصواريخ غراد في هذه الهجمات وهي صواريخ يصل مداها بعد التحوير إلى ما يقرب من 100 كم، وهو تطور نوعي لا يمكن للأمريكيين عدم الاستجابة له لأنه يعني عمليا أنه لم يعد هناك أي جدوى من إعادة الانتشار التي قامت بها القوات الأمريكية في العراق بداية من آذار/ مارس 2020 والتي انتهت بالإبقاء على هذه القوات في قاعدتي حرير في أربيل وقاعدة عين الأسد في الأنبار .

قلنا كثيرا إن المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية في العراق جزء من «لعبة» مسيطر عليها بين الطرفين لكن ذلك لا يمنع الطرفين من محاولة فرض قواعد جديدة على هذه اللعبة وكانت محاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد ثم الهجوم على قاعدة كركوك والذي أوقع مقاولا أمريكيا واحدة من هذه المحاولات لكن اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس وهو الرد الأمريكي على العمليتين السابقتين أعاد اللعبة إلى شروطها المتفق عليها ضمنيا. لهذا كان رد الفعل الأمريكي تجاه القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد ردا «هادئا» حكمه سياق اللعبة!

لقد كشفت الوساطة التي قامت بها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جنين بلاسخارت، حقيقة أن «الميليشيات» الوهمية التي تصدر بيانات تعلن فيها مسؤوليتها عن مهاجمة القوات الأمريكية في العراق، ليست سوى «واجهات» لميليشيات معروفة أولا، كما كشفت حقيقة أن أبو فدك المحمداوي الذي يشغل منصب قائد أركان الحشد الشعبي في العراق، هو من يمتلك السيطرة على هذه الميليشيات من جهة ثانية. وقد بدا واضحا للجميع أن ثمة قرارا إيران يا، تنفذه الميليشيات في العراق، بالتحكم في مستوى المواجهة، تصعيدا أو تخفيضا! لكن تغيّر الإدارة الأمريكية، والتصريحات الهادئة التي أعلنتها إدارة الرئيس بايدن تجاه العلاقة مع إيران، ظلت في حدود الخطابات ولم تتحول إلى فعل حتى اللحظة، الأمر الذي دفع إيران إلى استخدام أدواتها في العراق نحو مزيد من الضغط على هذه الإدارة، اعتقادا منها بانها لن تلجأ إلى التكتيكات التي اعتمدتها إدارة الرئيس ترامب، تحديدا فيما يتعلق بالمواجهة العسكرية. لكن القصف الأمريكي لكتائب حزب الله جنوب مدينة البو كمال السورية، والتي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن الحدود العراقية السورية، ليلة الخميس 25 شباط/ فبراير فرض مزيدا من الضغط على إيران!

إن «الاعترافات» الرسمية حول ضلوع «كتائب سيد الشهداء» في قصف مطار أربيل، وتعاطي بغداد مع هذه الاعترافات عبر القائها القبض على أحد المتهمين، يعني أن ثمة اتهاما صريحا لفصيل ينتمي إلى هيئة الحشد الشعبي يعمل تحت مسمى «اللواء 14 حشد شعبي» بتنفيذ «جرائم إرهابية» تبعا لقانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005، كما يفضح زيف البيانات التي صدرت باسم «سرايا أولياء الدم» التي تبنت عملية قصف مطار أربيل في حينها، وتثبت أن هذا الفصيل مجرد غطاء تستخدمه كتائب سيد الشهداء لإبعاد الشبهات عنها خوفا من رد الفعل الأمريكي! وهو ما سيفرض على الحكومة العراقية، والفاعلين السياسيين الشيعة، استجابات مختلفة هذه المرة. فلم يعد متاحا لكلا الطرفين «التحايل» على الوقائع كما كانا يفعلان في كل مرة، ولم يعد بإمكانهما «التغطية» على مثل هذه العمليات التي تثبت في كل مرة أن القرار الحقيقي الذي يحرك هذه الميليشيات، هو قرار إيراني بحت ولا تدين بالولاء للقائد العام للقوات المسلحة كما تدّعي، و لا تتبع أيضا لأي مرجعية داخل العراق!

كما أن التحول من استخدام قواعد مصنوعة محليا لإطلاق صواريخ الكاتيوشا إلى استخدام قواعد لإطلاق صواريخ غراد، يثبت أن ما يصدق على بغداد، التي تعد فيها الميليشيات محصنة تماما، ولا يمكن لأي جهة أمنية المساس بها (تجربة إلقاء القبض على أعضاء كتائب حزب الله في البو عيثة ثم اطلاق سراحهم أثبتت، بما لا يدع مجالا للشك، هذه الحقيقة) يصدق أيضا على محافظة الأنبار، التي تكون فيها كلُّ حركة مُراقبة عبر عشرات نقاط التفتيش المنتشرة فيها، وبالتالي فإن قدرة هذه «الميليشيات» على اختراق ذلك كله لقصف قاعدة عين الأسد يعني بالضرورة أنها تمتلك حصانة حقيقية تجعل القوات الأمنية عاجزة تماما عن التعاطي معها، وهو ما سيفرض على الأمريكيين التصرف منفردين هذه المرة للدفاع عن القاعدة!

من الواضح أن تأخر المفاوضات الأمريكية الإيرانية حول الملف النووي، ومحاولة إضافة شروط أخرى تتعلق بالصواريخ البالستية ودور الحرس الثوري في المنطقة، ألقى بظلاله على المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية، وبالتالي تسعى إيران، عبر أدواتها في العراق، إلى مزيد من الضغط على إدارة بايدن، ويبدو واضحا للجميع أيضا أنه لا دور عراقي رسمي حاسم، ولا موقف للفاعلين السياسيين على مختلف توجهاتهم، في هذه المواجهة، وأن الجميع قد قبلوا في النهاية بحقيقة أن العراق لا يمثل اليوم في هذه المواجهة سوى ساحة خلفية لإيران!

تعليقات

أحدث أقدم