القرار السياسي

مشاهدات

 


حسين عبدالقادر المؤيد
مفكر وسياسي عراقي

إن القرارات السياسية لا يصح أن تتخذ بعفوية أو عشوائية ولا يصح أن تكون خاضعة للقيم الفردية بمعنى المنافع والاعتبارات الفردية كالحفاظ على المكانة أو المنصب أو زيادة المكاسب المعنوية أو المادية للشخص . وكذلك لا يصح أن تكون خاضعة للقيم السياسية الفئوية بمعنى المنافع الفئوية كالاعتبارات والمصالح الحزبية والفئوية على حساب المصالح العامة .

إن عملية اتخاذ القرار السياسي تتأثر بالعديد من العوامل ولكنها يجب أن تراعي القيم الآيديولوجية التي تتبناها الدولة أو السلطة الحاكمة  فالقضاء على بؤر الإرهاب ومكافحة التطرف وترسيخ قيم التمدن والحضارة الحديثة تشكّل قيما أساسية للنظم الديمقراطية والدول المدنية القائمة على العلم و العقل . علاوة على ذلك هناك القيم السياسية التي تنسجم مع المصالح العامة مثل تحقيق الاستقرار والسلام وترسيخ التعايش . إذن لا يصح لصانع القرار ومتخذه أن يهمل أو يتغافل عن القيم الآيديولوجية والسياسية هذه فيجب أن يراعي الخيارات والبدائل التي تضمن تأمين هذه القيم .

يطلق الدكتور جميس أندرسون في كتابه صنع السياسات العامة تعبير القيم دون تمييز بين المنافع والمباديء فيرى أن المصالح الفردية والمصالح الفئوية لصانع القرار قيم يسميها القيم الفردية والقيم السياسية . إن هذا التعبير قد يخلق تشويشا يجب تجنبه عبر تسمية المعاني بدقة بالتمييز بين المنافع و المباديء وهكذا يجب تسمية القيم الفردية مثلا بالمنافع الفردية بينما تختص المباديء السياسية والآيديولوجية بتعبير القيم .

إن عملية صنع واتخاذ القرار السياسي عملية معقدة يتضافر فيها البعد العقلي والنفسي والمعلوماتي فهي تحتاج الى تفكير معمق وعقل قادر على استيعاب جوانب القضية وتحليل أبعادها ومآلاتها وتحتاج الى شعور عال بالمسؤولية ويقظة الضمير فهي تتعلق بمسار بلد ودولة وشعب وفد تتعلق بالمصير أيضا وانعكاسات القرار لن تقتصر عادة على صانع القرار ومتخذه وإنما على الدولة والمجتمع سواء أكان هذا القرار يتصل بالسياسة الخارجية أو بإدارة الأمور داخل الدولة ويدرك صانع القرار ومتخذه أن مهمته تتمحور في جلب المصالح ودفع المفاسد وأن أي خطأ في تشخيص المصلحة أو المفسدة أو الموازنة بينهما عند التضاد يسبب إشكاليات وقد يفضي الى ويلات . ومن هنا كان الجانب النفسي مهما جدا سواء في الشعور بالمسؤولية أو التحلي بأكبر قدر من الموضوعية وتجنب المزاجية والميول والرغبات والأهواء الذاتية . إن صانع القرار ومتخذه بحاجة الى قدر كبير من الموضوعية يمكنه من رؤية الأمور على حقيقتها للوصول الى القرار المنسجم مع طبيعة الأشياء .

ولا بد لصانع القرار ومتخذه من المعطيات اللازمة في الوصول الى القرار السياسي . وهذا الجانب على درجة عالية من الأهمية إذ يرتبط نجاح أو فشل صانع القرار ومتخذه بمقدار إحاطته بالمعطيات في الموضوع الذي يريد الوصول الى القرار بشأنه . إن كلا من علمي السياسة والاجتماع قدم النظريات والمعايير العلمية التي يجب أن يستند اليها صانع القرار السياسي ومتخذه ليتجنب العفوية والعشوائية في صنع القرار واتخاذه .

ومن هنا فإن السياسي سواء أ كان في السلطة أو في المعارضة لا بد أن يعتمد المعايير العلمية وهذا يتطلب منه أن يكون عارفا بها إما عبر دراسته لها أكاديميا أو امتلاكه للثقافة اللازمة والاطلاع على الأبحاث والدراسات المتصلة بهذا الشأن . وأما الاعتماد الكامل على مجرد التجربة السياسية وتراكم الخبرة فهو وإن كان مهما ولكنه ليس كافيا لا سيما بعد التطور الهائل في علمي السياسة والاجتماع وكذلك ما بلغه النظام العالمي من تطور وتعقيد على كافة الأصعدة . لقد اتضح أن عملية صنع القرار واتخاذه يجب أن تستند الى منهجية علمية لتتسم بالنضج والرشد وتنسجم مع الطبيعة المعقدة والحساسة لها . و لقد قدّم علماء السياسة والاجتماع عدة نظريات في هذا المجال كانت كل واحدة منها مدار بحث ونقد بينهم . ولكن القاعدة الأساسية التي يجب تمهيدها قبل صياغة النظرية وكذلك عند مناقشة النظريات المطروحة هي : ما هي المواصفات اللازم وجودها في أية نظرية تتكفل ببيان منهجية صنع القرار السياسي واتخاذه ؟ فإنه برأيي من دون أخذ هذه المواصفات بعين الاعتبار ستقع إشكالية جوهرية في صياغة النظرية أو في مناقشة النظريات المطروحة وهو ما سنقف عليه عند تقييم النظريات المطروحة ونلمسه عند محاولة صياغة نظرية بديلة في هذا المجال . ويمكن تحديد أهم المواصفات المشار اليها في عدة نقاط أذكرها بشكل مركّز و هي :

١- أن تكون النظرية عملية فالنظريات المثالية مهما كانت نموذجية إلا أنها غير مجدية للسياسي في مجال العمل والتطبيق فليس كل قرار سياسي يمكن طبخه على نار هادئة حتى يستكمل عناصره التفصيلية وليس كل قرار سياسي يتاح لصنعه واتخاذه من المعلومات ما يفرض على السياسي استيعابها أو التريث حتى استجماعها وليس كل قرار سياسي يحتاج الى الالتزام بالسقف النموذجي لعملية صنعه واتخاذه . وبناء على ذلك فإن المطلوب من أية نظرية تحدد منهجية صنع القرار السياسي واتخاذه أن تكون عملية كي تكون قابلة للتطبيق والاستفادة ويترتب على ذلك أن تكون النظرية مرنة تعطي للسياسي البوصلة في مختلف المساحات والأصعدة ولا تقيده بقالب أو قوالب تصلح في ظرف دون آخر .

٢- أن تكون النظرية عميقة فالنظريات السطحية لا تعدو أن تكون مجرد ثرثرة في ميدان علمي ولأن النظريات السطحية لن تكون قادرة على انتشال القرار السياسي من العفوية والعشوائية والذي هو الهدف الرئيس من ترشيد القرار السياسي . و بالتالي لا بد أن تكون النظرية قادرة على سبر غور عملية صنع القرار واتخاذه ولا تتناولها بالشكل أو بالنظر الى جملة من التطبيقات . ويترتب على ذلك أن تكون النظرية مستوعبة لمجالات العمل السياسي والتي هي الحقل الطبيعي لصنع القرار واتخاذه .

٣- أن تكون النظرية معيارية فالنظرية المطلوبة في هذا الشأن ليست مجرد اقتراحات وتوصيات وإنما هي منهج علمي لترشيد عملية صنع القرار واتخاذه وهذا ما يستدعي أن تصاغ وفق معايير علمية وأن تكون حصيلتها معيارا علميا يستند اليه تقييم ما يقوم به العاملون في المجال السياسي في صنع القرار السياسي واتخاذه . وبالنظر الى كل هذه النقاط يمكن أن نستنتج أن النظرية التي تطرح في هذا الشأن ليس بالضرورة أن تتضمن أسسا موحدة لكل عمليات صنع القرار واتخاذه وإنما يمكن أن تضع مجموعة من الأسس حسب تنوع عملية صنع القرار واتخاذه في متطلباتها ومقتضياتها . تحدثت الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والستراتيجية في بحث عن أهم نماذج ونظريات اتخاذ القرار في السياسة العامة عن نظرية الاتصال بوصفه شريان الحياة السياسية والتعبير عن شكلها ومظهرها و كذلك باعتباره حسب وصف عالم السياسة الأمريكي كارل دوييش جوهر العملية السياسية . والوجه الذي يذكر في هذه النظرية في بيان دور الاتصال هو كونه القناة الرئيسة للمعلومات التي يحتاجها صانع القرار السياسي ومتخذه .

ليس ثمة شك في أن العمل السياسي بحاجة ماسة وضرورية الى المعلومة وأن القرار السياسي يتوقف على المعلومة وأن سلامة القرار السياسي رهن لعدة عناصر منها سلامة المعلومات والمعطيات وهذه السلامة للمعلومة تشمل ما هو أعم من صحة المعلومة ومن وفرتها واستجماعها . وليس ثمة شك في أن الاتصال هو الآلية الأساسية للحصول على المعلومة وبالتالي فإن أجهزة ومؤسسات الدولة تقوم في أهم وظائفها بعملية الاتصال في المدخلات والمخرجات بكل صوره الشفهية والكتبية . ولكننا لا نستطيع القبول بنظرية الاتصال كمنهجية لصنع القرار السياسي وإنما يمكن القبول بها بوصفها نظرية تنظم إحدى مفردات عملية صنع القرار واتخاذه والتي تتعلق بالجانب المعلوماتي . فصنع القرار واتخاذه يرتبط بعدة مفردات منها توفر المعلومات والمعطيات ومنها تحليل المعلومات ومنها تحديد الأولويات والبدائل و الخيارات ومنها معرفة المآلات وتقييمها الى غير ذلك من المفردات وبالتالي تحتاج عملية صنع القرار واتخاذه الى نظرية شاملة متكاملة . لقد ركزّت نظرية الاتصال على الجانب المعلوماتي وربما أغفلت أو لم تهتم بدور الاتصال في صناعة واتخاذ القرار السياسي بوصفه وسيلة للحوار وتبادل الأفكار والإقناع في سياق صناعة القرار واتخاذه وكلها من العوامل الأساسية في هذه العملية . وما دمنا قد عرضنا دور الاتصال في هذا المجال فيجب أن نؤكد على خطأ يقع فيه الكثير من القادة والسياسيين الذين لا يعطون أهمية لجميع مجالات الاتصال فيقتصر بعضهم على قنوات اتصال مؤسسات الدولة المعنية بينما الصحيح أن يكون الاتصال شاملا يتماهى مع متطلبات دينامية العمل السياسي الذي يعتبر جموده على قوالب وأنماط ثابتة من أسباب قصوره وفشله . لذا لا بد أن يهتم صانع القرار ومتخذه بالاتصال بالنخب وبمنظمات المجتمع المدني وبشرائح الشعب حسب طبيعة ونوع القرار الذي يريد صنعه أو اتخاذه .

ليس من المبالغة القول بأن عملية صنع القرار السياسي واتخاذه لن تُفهَم فهما دقيقا وصائبا ما لم توضع في إطار التحليل النسقي للنظام السياسي والذي يعتبر من معطيات علم السياسة الحديث والتي ارتبط ظهورها بالتطور العلمي الذي انعكست جملة من مفاهيمه على علم الاجتماع ومنه الى علم السياسة .

لقد ورد مفهوما ( النسق ) و ( الاتزان ) في علم الفيزياء ، في معرض تفسير العلاقات التي تربط بين الأجسام الطبيعية ، باعتبار أن كل مجموعة من المجاميع في الطبيعة ، هي مجموعة قوى تتفاعل فيما بينها تفاعلا ميكانيكيا وفق قانون الفعل و رد الفعل ، و تتبادل التأثير فيما بينها بنحو يحقق الاتزان الكلي في المجموعة . و قد تم اقتباس هذا التفسير في علم الاجتماع الحديث ، على يد تالكوت بارسونز و هو أحد عباقرة علم الاجتماع ، و الذي استطاع إيجاد مدرسة فكرية تتوجت بنظرية النسق الاجتماعي التي توصل اليها ، و التي ( أصبحت تسيطر سيطرة كاملة على المؤسسة الأكاديمية في علم الاجتماع الغربي ) كما يقول الدكتور أحمد زايد في كتابه علم الاجتماع .
إن نظرية النسق الاجتماعي ، قدمت تفسيرا للنظام الاجتماعي العام و مشكلته و هما محور أبحاث علم الاجتماع . لسنا بصدد شرح نظرية النسق الاجتماعي و كيف انبثقت من نظرية الفعل الاجتماعي التي طرحها بارسونز في البداية ، و لكنني أريد أن أبيّن وجه الارتباط الذي جعل نظرية النسق الاجتماعي ، ملهمة لعالم السياسة ديفيد إيستون ، الذي يضارع في علم السياسة الحديث ، بنظريته عن نسق النظام السياسي ، بارسونز في علم الاجتماع الحديث ، بنظريته عن النسق الاجتماعي . إن دراسة التسلسل من نظرية النسق الاجتماعي الى نظرية نسق النظام السياسي ، و التعرف على الترابط البنائي بين النظريتين ، أمر لا بد منه لفهم نظرية النسق السياسي ، و لكيفية التعامل مع الاعتراضات التي واجهتها . و لذلك لا بد من إطلالة على نظرية النسق الاجتماعي أولاً .

إن الإنسان كائن بشري يتسم بالعقل و الإرادة و المشاعر ، و هذه العناصر الثلاثة تطبع سلوكه الفردي و الجمعي ، و من الطبيعي أن كل فرد يحرص على تأمين رغباته بكل طريقة ممكنة ، و حين يكون الإنسان فردا لوحده ليس له منافس أو مزاحم ، فسوف ينطلق في المحيط الذي هو فيه لتحقيق رغباته ، و لكنه حين يكون مع غيره ، فقد تتعارض رغباته مع ذلك الغير ، و تتسع مساحة التعارض كلما اتسعت الجماعة . إن هذا التعارض منشأ و سبب للصراع الذي يمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة تنطوي على محاولات السيطرة و استخدام العنف ، و هو ما يؤدي الى عدم الاستقرار و الى الفوضى ، و يدرك كل إنسان خطورة ذاك على حياته أو عيشه . و من هنا يتشكل عقد اجتماعي يضبط سلوك الأفراد و يولد نظام اجتماعي . و لكن هذا النظام الاجتماعي قد يفتقد الى التوازن لعدم تكافؤ القوى فيه و جموح الأفراد الذي يهدد العقد الاجتماعي نفسه ، بالتالي تنشأ مشكلة اجتماعية ربما تفجر المجتمع من داخله . إذن محض العقد الاجتماعي لن يعالج مشكلة النظام العام ، فنحتاج الى معايير للحفاظ عليه . و هكذا سنكون أمام نوعين من النظام العام : نظام واقعي يجسد الحالة الواقعية التي عليها المجتمع بتناقضاته . و نظام معياري يرتبط بمجموعة من العناصر المعيارية تعتبر ضرورية للحفاظ على نظام واقعي قائم على العقد الاجتماعي . و هكذا يدرك أعضاء المجتمع ، ضرورة التشارك في مجموعة من القيم التي تضبط أهدافهم و كذلك وسائلهم في تحقيق هذه الأهداف . و بهذا تنشأ علاقة فعالة بين القيم و الأفراد فيتقبلونها بإرادتهم نظرا لإدراكهم لأهميتها ، فيضبطون سلوكهم وفقها ، و بهذا يكون الفعل الاجتماعي فعلا ذاتيا و طوعيا في الوقت نفسه .

إن هذا الفعل الاجتماعي إنما يتم في إطار المجتمع ، و هناك مجموعة من العناصر يتحقق من ترابطها مجتمعة ، التفاعل بين أفراد المجتمع الذين نسميهم الفاعلين و نسمي فعلهم الفعل الاجتماعي . و يمكن تصنيف هذه العناصر الى ثلاثة :

١- عناصر فيزيقية ، الطبيعة الجغرافية و الظروف المناخية و الأجهزة العضوية للفاعلين .
٢- الموضوعات الاجتماعية ، أي الفاعلين الموجودين في المجتمع الذي نسميه الموقف .
٣- الموضوعات الرمزية ، و هي اللغة و القيم و المعايير .

وهكذا يتضح أن الفعل الاجتماعي لا يتم إلا باجتماع هذه العناصر هي الفاعل و الموقف بموضوعاته الفيزيقية و الاجتماعية ، و الرموز كاللغة بوصفها وسيلة تواصل بين أعضاء المجتمع ، و القيم التي تضبط سلوك الفاعلين . إن هذا الفعل الاجتماعي ، له خصائص النسق وهي نظام واحد ترابطا و ترتيبا و ضبطا . و بحكم أن الفعل الاجتماعي يجسد نسقا بما للنسق من خصائص ، إذن له بناء داخلي و وظائف ترتبط بعناصره المكونة و علاقات دينامية تنتظم وفقا لقوانين ثابتة .

إن الأنماط الثقافية تمثل القواعد البنائية لأنساق الفعل الاجتماعي ، لأنها تضع قيما و معايير و ضوابط تحكم سلوك الأفراد ، و تتحرك خيارات الأفراد في إطار الأنماط الثقافية . وإذا درسنا أي فعل اجتماعي ، فسوف نكتشف فيه أربعة أبعاد يقابل كل منها وظيفة من الوظائف الأربعة للفاعل الاجتماعي . وهي :

١- التكوين البايولوجي ، و وظيفته تحقيق تكيف الفاعل مع بيئته الخارجية .
٢- الشخصية ، و وظيفتها تحديد الهدف و ما يلزم الفاعل الاجتماعي لتحقيقه .
٣- العلاقات الاجتماعية التي تشكل النسق الاجتماعي و الذي يقوم بوظيفة التكامل عبر ضبط مكونات الفاعل الاجتماعي و فرض ضوابط اجتماعية تمنعه من التصادم مع أهداف النسق و النظام الاجتماعي .

٤- الثقافة المجتمعية التي تقوم بوظيفة الحفاظ على النسق من الإنهيار عبر ما تفرضه من معايير و قيم و آيديولوجيات .

إن هذه الأبعاد الأربعة ، هي أنساق فرعية للفاعل ، لكل منها وظيفته داخل النسق العام للفعل الإجتماعي . إن الأنساق سالفة الذكر ، ترتبط بعلاقة تفاعلية من التبادل و التأثير ، و هذه العلاقة التفاعلية من شأنها أن تعطي للفعل الاجتماعي ، الانضباط و الاستقرار . و كل نسق من أنساق الفعل ، ينطوي على قدر من الطاقة ، و كمّ من المعلومات . و هنا تتبادل أنساق الفاعل كميات الطاقة و الفعل التي تختزنها ، و لكن أنساق الفاعل لا تمتلك نفس الدرجة ، و هذا ما يجعل العلاقة بين الأنساق غير متكافئة . فالنسق الذي يختزن كما أكبر من المعلومات يتحكم بالنسق الذي يختزن كما أقل من المعلومات و قدرا أكبر من الطاقة ، فالنسق الثقافي يختزن كما أكبر من المعلومات ثم يليه النسق الاجتماعي ثم نسق الشخصية ثم النسق العضوي . بينما يمتلك النسق العضوي قدرا أكبر من الطاقة يليه نسق الشخصية ثم النسق الاجتماعي ثم النسق الثقافي . و نجد أن النسق الثقافي بحكم ما يختزنه من كم أكبر من المعلومات ، قادر على التأثير لدرجة التحكم في الأنساق الأخرى .

لقد استخدم بارسونز تحليله للفعل الاجتماعي و الذي تقدم شرحه ، في تحليل النسق الاجتماعي ، فهو ينقسم الى أربعة أنساق فرعية وظيفية ، و هذه الوظائف هي : التكيف ، تحقيق الهدف ، التكامل ، المحافظة على النمط . و هذه الأنساق الأربعة ترتبط بعلاقات تبادلية ، فيكتسب المجتمع درجة كبيرة من التنظيم و الاستقرار ، فهو كل متفاعل الأجزاء .
إن النسق الاجتماعي عبارة عن شبكة علاقات بين الأفراد و الجماعات ، فهو مجموعة من الفاعلين تنتظم بينها علاقات اجتماعية تتسم بالانضباط و الاستقرار . وهناك ثلاثة عناصر تحكم التفاعل الاجتماعي بين الفاعلين . وهي :

١-التوقعات المتبادلة بين الفاعلين ، و التي تدفع كل واحد منهم الى أن يأخذ بعين الاعتبار سلوك الاخرين .
٢- القيم و المعايير التي تحكم الفاعل و تحدد شكل التوقعات المتبادلة بين الفاعلين .
٣- الجزاءات التي تتمثل في أنواع من الثواب و العقاب و التي تلعب دورها في ضبط سلوك الفاعلين فيما بينهم .
و من الواضح أن لكل فاعل في النسق الاجتماعي مكانة تحددها طبيعة الدور الذي يلعبه في النسق .
و يجد كل فاعل يدخل في علاقة تفاعلية مع الفاعلين الآخرين ، أن عليه أن يوفق بين أهدافه و بين المعايير التي تحكم سلوكه و سلوك الآخرين في ذلك النسق .

إن هذا التوافق أو التوفيق بين هدف الفاعل و المعايير هو الجانب المهم في التفاعل الاجتماعي.
أما هدف الفاعل ، فله ثلاثة أبعاد : انفعالي ، معرفي ، تقويمي . و أما المعايير ، فلها أيضا ثلاثة أبعاد : معرفي ، ذوقي ، أخلاقي .
و لا يتحقق التوافق الكامل بين هدف الفاعل و المعايير ، إلا إذا اندمج الفاعلون في المعايير بنحو يحدد كل فاعل هدفه بأخذ أهداف المجتمع بنظر الاعتبار ، و أن لا يجعل أهدافه تتعارض مع أهداف الآخرين . و بما أن أدوار الفاعلين تتحدد و تتجسد في مؤسسات المجتمع و نظمه ، فلذلك ستكون هناك أنساق فرعية في المجتمع ، هي :

١- النسق الاقتصادي . و يحقق من خلال تنظيم الانتاج ، تكيف المجتمع مع البيئة و السيطرة عليها ليستمر في الوجود .
٢- النسق السياسي ، و يحقق من خلال اتخاذ القرارات و تعبئة الموارد ، رسم أهداف المجتمع و العمل على تحقيق هذه الأهداف .
٣- الروابط المجتمعية ، و هي النظم التي تفرض التنسيق اللازم بين الفاعلين في المجتمع لمنع الفوضى .
٤- التنشئة الاجتماعية ، و وظيفتها المحافظة على نمط المجتمع ، فيتم نقل ثقافة المجتمع الى الأفراد ليندمجوا فيها و يكون لها تأثيرها في خلق السلوك المنضبط .

إن كل نسق من هذه الأنساق الأربعة ، هو عنصر أساسي في النسق الاجتماعي ، بمعنى أن النسق الاجتماعي ينهار إذا نقص احد هذه العناصر . وكذلك تقوم بين كل من هذه الأنساق الأربعة علاقة اعتماد متبادل ، فالنسق الاقتصادي لا يستطيع أداء وظيفته من دون النسق السياسي ، و كلا النسقين لا يؤديان وظيفتهما من دون وجود و تأثير الروابط الاجتماعية ، و تأثير التنشئة الاجتماعية في الفاعلين .
و يطلق بارسونز على علاقة الاعتماد المتبادل بين الأنساق الأربعة ( أنساق التبادل ) ، و يحلل ذلك ، بأن كل نسق له ( مدخلات ) تعبّر عما يمتلكه النسق من عوامل إنتاج ، و ( مخرجات ) تعبّر عما يتمخض عنه من منتجات ، و يتبادل كل نسق مع الأنساق الأخرى ، ما لديه من مدخلات و مخرجات ، و تتخاطب الأنساق مع بعضها عبر رموز التبادل ، فالنسق الاقتصادي يخاطب الأنساق الاخرى بلغة النقود ، و النسق السياسي يخاطب الأنساق الأخرى بلغة بلغة السلطة ، و الروابط الاجتماعية تخاطب الأنساق كلها بلغة تأثير القانون و النظم و الدين و القضاء ، و التنشئة الاجتماعية تخاطب الأنساق كلها بلفة الالتزام . و تنشأ عن شبكة التبادل بين أنساق المجتمع ستة أنساق للتبادل ، و بذلك يتحقق الانتظام في العلاقات الاجتماعية . و يؤكد بارسونز على أن الذي يحقق بين الفاعلين في النسق الاجتماعي ، نسقا تفاعليا ، ليس مجرد الاعتماد المتبادل بين سلوكهم ، و إنما لأن في التفاعل من العناصر التي تسعى للحفاظ على وجودها و توازنها باستمرار من خلال مقاومة التغيير و الصراع ، و من هنا يلعب التوازن دورا في تحقيق الاستقرار عندما تظهر داخل النسق تغيرات أو انحرافات .

قد يحدث خلل في عملية التنشئة الاجتماعية فيحصل خلل في التزام الفاعلين و انضباطهم ، و قد يسعى بعض الفاعلين الى إشباع رغباتهم بأكثر مما يسمح به النسق . و في مثل ذلك تبرز أهمية التوازن في مواجهة نماذج عدم التكامل للحفاظ على النسق الاجتماعي .
و هكذا نكون قد عرضنا نظرية النسق الاجتماعي لبارسونز ، باختصار و تركيز على ما يربط نظرية نسق النظام السياسي بها
و من نظرية النسق الاجتماعي ننتقل الى نظرية النسق السياسي التي أرساها عالم السياسة ديفيد إيستون .

إن التوسع في عرض نظرية إيستون ، يخرج عن نطاق مقالة بحثية يتمحور موضوعها الرئيس حول القرار السياسي ، و ليس حول النظام السياسي ، و لكننا نشرح هذه النظرية بتركيز يسعف القاريء في تكوين تصور واضح عنها . لقد تقدم أن النظام الاجتماعي ، يتقوم بالنسق الاجتماعي ، الذي يجعله نظاما معياريا قادرا على الاستقرار و الاستمرار ، و أن للنسق الاجتماعي ، أنساقا فرعية في المجتمع ، منها النسق السياسي ، و هو من العناصر الأساسية التي ينهار النسق الاجتماعي بدونها .

ينطلق إيستون في تناوله للنسق السياسي ، من النظر الى الحياة السياسية بوصفها مجموعة التفاعلات التي تجري في إطار النظام السياسي من جهة ، و بين النظام السياسي و بيئته من جهة أخرى . و حين نربط بين نظرية بارسونز و نظرية إيستون ، نستطيع القول بأن البيئة عبارة عن مجموع العناصر التي اعتبرها بارسونز أساسية في الفعل الاجتماعي ، و هي : العناصر الفيزيقية و الموضوعات الاجتماعية و الموضوعات الرمزية ، و بعد ذلك كل ما ينتظم به النسق الاجتماعي من وظائف و عناصر تحكم التفاعل الاجتماعي بين الفاعلين .

و هكذا يتضح أن النظام السياسي هو العمود الفقري للحياة السياسية . و بما أن غاية النسق الاجتماعي منح النظام الاجتماعي الاستقرار و الاستمرار ، لذلك فإن النسق السياسي الذي هو عنصر أساسي في النسق الاجتماعي ، يجب أن يتسم بالقدرة على الاستقرار والاستمرار . إن النظام السياسي يعبّر عن مجموعة التفاعلات السياسية التي تحدث في أي مجتمع و التي يتم بموجبها صنع السياسات العامة و اتخاذ القرارات و تعبئة الموارد لتحقيق وظيفة النسق السياسي و هي رسم أهداف المجتمع و العمل على تحقيق هذه الأهداف .
وعند تحليل النظام السياسي ، يقول إيستون إن النظام السياسي يتألف من أربعة عناصر رئيسة و أساسية ، هي : المدخلات ، التحويل ، المخرجات ، التغذية الاسترجاعية . ويجب أن نقف عند كل واحد من هذه العناصر .

1ـ المدخلات :

تقدم في نظرية النسق الاجتماعي ، أن المدخلات هي ما يمتلكه كل نسق من عوامل إنتاج ، و ليس المقصود بالانتاج خصوص معناه الاقتصادي ، و إنما المادة التي من خلالها يؤدي النسق وظيفته بإفراز المخرجات . و على هذا ، فالنسق السياسي له مدخلات ، هي ما يمتلكه من مادة يعمل عليها لإصدار المخرجات . و يرى إيستون أن مدخلات النظام السياسي تتشكل من عنصرين رئيسين : 

١- مطالب المجتمع ، و قد تكون مطالب عامة، أو مطالب محددة ، و التعبير عنها تارة يكون بنحو مباشر و أخرى بنحو غير مباشر .
٢- الاتجاهات و المواقف المؤيدة للنظام أو المعارضة له .
٢- التحويل : و هو عبارة عن العمليات التي يقوم بها النظام و التي بمقتضاها تتحول المدخلات الى مخرجات .
٣- المخرجات :

و هي كما عرفها بارسونز في نظرية النسق الاجتماعي بأنها ما ينتجه النسق .
و عليه فما طبيعة مخرجات النسق السياسي ؟

يقول إيستون إنها مجموعة القرارات و الإجراءات ذات الصفة الإلزامية التي يتخذها النظام السياسي و التي يؤدي من خلالها وظيفته السلطوية . أرى أن التقييد بالصفة الإلزامية غير صحيح منهجيا و غير واقعي ، فالنظام قد يتخذ قرارات و إجراءات تشجيعية تساهم في تحقيق أهداف المجتمع ، و قد يتخذ قرارات و إجراءات تتسم بالمرونة ، لذلك لا بد من الشمولية .

٤- التغذية الاسترجاعية :

و يراد بها التأثير الذي تحدثه المخرجات من قرارات و إجراءات في البيئة بالمعنى المتقدم . إن المدخلات تأتي من البيئة ، و المخرجات تتجه الى البيئة ، و بطبيعة الحال سيكون للمخرجات تأثير على البيئة التي وجهت مطالبها لمؤسسات النظام السياسي ، و التي لها مواقف من النظام بمقياس تلبيته لمطالبها أو اقتناعها بسياساته و سلوكياته ، و بالتالي فإن مردودات المخرجات على البيئة ستأخذ طريقها الى مؤسسات النظام السياسي و تصبح مدخلات .

هذا هو الشكل التحليلي الذي يقدمه إيستون للنسق السياسي ، و طبق هذا النسق تكون العملية السياسية ديناميكية تتسم بحركة تفاعلية و نشاط حيوي داخل النظام و بين النظام و بيئته المجتمعية . و بما أن النسق السياسي هو جزء من نسق اجتماعي و عنصر أساسي من العناصر التي يتقوم بها النسق الاجتماعي ، لذلك فهو يؤثر و يتأثر بعناصر النسق الاجتماعي ، مضافا الى أنه محكوم بطبيعة هذا النسق و قواعده و آلياته . و كما يلعب التوازن دورا في تحقيق الاستقرار عندما تظهر داخل النسق الاجتماعي تغيرات أو انحرافات ، الأمر الذي يعطي للنسق الاجتماعي مقاومة أمام التغيير و الصراع ، كذلك النسق السياسي كنسق تفاعلي تكيفي يمتلك من العناصر ما يمنحه مقاومة أمام التغيير و الصراع . و يمكن اعتبار التنشئة السياسية و التجنيد السياسي و الاتصال السياسي الشامل لأجهزة الإعلام ، من العناصر الأساسية التي يمتلكها النظام السياسي للحفاظ على الاستقرار و الاستمرار و مقاومة التغيير و الصراع .

إن اعتبار التنشئة السياسية و التجنيد السياسي و الاتصال السياسي بالوجه الذي ذكرناه ، أدق من محاولة جابريل ألموند - و هو أحد علماء السياسة الذين أسهموا في محاولات تطوير نظرية النسق السياسي - زجها ضمن وظائف النظام السياسي على مستوى المدخلات ، علما أنها و بناء على محاولة ألموند ، ستكون هذه العناصر ضمن وظائف النظام السياسي على مستوى البيئة التي تصدر منها المدخلات و ليس على مستوى المدخلات نفسها . تتميز نظرية النسق السياسي لإيستون بميزتين رئيستين جعلتاها فريدة بين النظريات المطروحة في تحليل النظام السياسي و الحياة السياسية . و هما : 

١- الارتباط الوثيق بينها و بين نظرية النسق الاجتماعي ، و لا ينم هذا الارتباط عن محض تقليد في الشكل ، و إنما يؤشر على حقيقة أن النسق السياسي هو جزء لا يتجزأ من النسق الاجتماعي ، و بالتالي لا يمكن تناوله بنحو منفصل عنه و عن قواعده و قوانينه و ديناميكيته ، بل إن أية رؤية تحليلية للنسق السياسي ، يجب أن تكون مبنية على حقائق النسق الاجتماعي ، و لذلك فإن النظريات الأخرى التي افتقدت لهذه الصلة ، لم تنجح في تقديم تحليل دقيق لطبيعة الحياة السياسية و دور النظام السياسي الذي قدمته كصورة لها إطارها ، بينما هو جزء من صورة أشمل في إطار واحد كبير .

٢- النجاح في رسم الصورة الكاملة لديناميكية الحياة السياسية باستيعاب خارطتها و التحديد الدقيق لمحطات حركتها ، دون نقيصة مخلة أو إضافة زائدة ، الأمر الذي يجعل هذه النظرية المادة الأساسية لمعرفة تحليلية للحياة السياسية و موقع النظام السياسي و دوره .
و لا يضير نظرية النسق السياسي ، بعد هاتين الميزتين ، ما انسكب عليها من انتقادات ، لا يمكن اعتبارها - برأيي - انتقادات جوهرية ، تمس صحة النظرية ، فضلا عن قدرة هذه الانتقادات على الاطاحة بها .

ويتضح ذلك بالمرور على أبرز و أهم هذه الانتقادات .

١- التناول السريع و المبهم للعملية التحويلية ، حيث لم تذكر النظرية كيفية تحويل المدخلات الى مخرجات .
أعتقد أن هذا الانتقاد لم يلتفت الى أن هدف إيستون من تحليل الحياة السياسية ، هو رسم خارطة لآلية العملية السياسية ، و ليس معنيا بتفاصيل محتوياتها الذي يعني دراسة علم السياسة ككل ، بينما النظرية تهدف الى تحليل الحياة السياسية من حيث آليتها التفاعلية .
٢- صعوبة التحويل الإجرائي لكثير من المفاهيم الجديدة التي أتت بها نظرية النسق السياسي كي تصبح قابلة للقياس ، و في مجال دراسة العلاقات الدولية و النظام الدولي تبرز هذه الصعوبات بوضوح .

أعتقد أن هذا الاعتراض في غير محله ، لأن نظرية النسق السياسي ، اتجهت لتحليل الحياة السياسية القائمة في النسق الاجتماعي الذي يتقوم بنسق سياسي قادر على ممارسة وظيفته السلطوية . و أما النظام العالمي الذي تتحرك في إطاره العلاقات الدولية ، فهو ليس نظاما يمارس وظيفة سلطوية كاملة ، و لا يقوم منذ تشكيله على ذات النسق و التوازن الذي يتشكل وفقه النسق الاجتماعي ، فليس من الواقعي و لا المنهجي مطالبة نظرية النسق السياسي بالانطباق عليه .

٣- إن نظرية النسق السياسي ، تعطي اهتماما مبالغا فيه للاستقرار بوصفه قيمة عليا تحكم سلوك النظام السياسي ، فالتغيير الثوري بما يعنيه من تحول جذري شامل للنظام السياسي ، لا محل له في نظرية النسق السياسي . مضافا الى أن نظرية النسق السياسي ، جعلت استمرار النظام السياسي و الأمر الواقع هدفا لها ، لذا ركزت على مقومات الاستمرار و ليس على عوامل التغيير و الصراع ، و هذا ما يفسر أن أغلب الدراسات التي أخذت بهذه النظرية ، قد انتهت الى نتائج محافظة أو مؤيدة للأمر الواقع .

ربما يعتبر هذا الانتقاد ، أوجه ما اعترض به على نظرية إيستون . و لكن وجاهته لا تعني صحته ، فهو اعتراض خاطيء ، لم يأخذ بنظر الاعتبار كون نظرية النسق السياسي مبنية على نظرية النسق الاجتماعي ، التي حللت طبيعة و آليات التفاعلات المجتمعية ، و اكتشفت قواعدها و ما بنيت عليه ، و أخذت بنظر الاعتبار أن النسق الاجتماعي يقوم على هدف الاستقرار و الاستمرار و مواجهة عوامل التغير و الصراع بوصفها انحرافات تشكل تحديا لاستقرار النسق و استمراره ، بمعنى أن هذه العوامل لو شقت طريقها ، لتفكك النسق الاجتماعي و حصلت الفوضى . و بما أن النسق السياسي هو أحد الفروع الرئيسة للنسق الاجتماعي ، فلا بد أن يستبطن ذات الهدف ، و هو الاستقرار و الاستمرار ، لأن استقرار النظام السياسي و استمراره ، عنصر أساسي في استقرار النسق الاجتماعي و استمراره ، و عدم انفلات المجتمع نحو الفوضى .

إن هذه النقطة الدقيقة تعني ، أن استقرار النظام السياسي و استمراره الذي اهتمت به نظرية إيستون ، يراد منه حفظه من عوامل التغيير المؤدي الى الانفلات المجتمعي و الفوضى ، و ليس التغيير المؤدي الى تبدل السلطة أو تطوير النظام السياسي نفسه ، و هذا دليل عمق نظرية النسق السياسي و دقتها ، و ليس دليل عجزها أو قصورها .

برزت عدة نظريات تمنهج اتخاذ القرار ، و قبل أن نتناولها يجب أن نؤكد على ضرورة الفصل بين تطبيقاتها الادارية و الاقتصادية في القطاعات غير الحكومية ، و بين تطبيقاتها على مستوى القرار الحكومي سواء أ كان قرارا سياسيا خارجيا أو داخليا ، أو قرارا يتصل بالسياسات العامة في شتى أصعدة إدارة الدولة . ذلك أن طبيعة القرار الحكومي تختلف اختلافا ضاق أو اتسع و قلّ أو كثر عن طبيعة القرارات غير الحكومية ، مع تسليمنا بوجود نقاط مشتركة ، لكننا يجب أن نركز على موضوع البحث و هو القرار السياسي .
و فيما يلي أبرز النظريات المطروحة في هذا المجال :

١- نظرية النموذج الكلي الرشيد
و يقول الدكتور جميس أندرسون في كتابه صنع السياسات العامة ، إنها من أكثر النظريات انتشارا و ربما قبولا .
و قد عُرِضت نظرية النموذج الكلي الرشيد في ست نقاط متتالية ، هي :-
١-وجود قضية عامة محددة و قابلة للدراسة و جديرة بالاهتمام مقارنة بالقضايا الأخرى .
٢- تكون الأهداف و المصالح التي يأخذها صانع القرار أو متخذه ، واضحة و مرتبة حسب الأولوية و درجة أهميتها .
٣- تحديد و فحص جميع الخيارات و البدائل التي يراد التعامل بها مع القضية أو المشكلة .
٤- تقدير النتائج المترتبة على كل خيار أو بديل و المقارنة بين المردودات الإيجابية و السلبية .
٥- إجراء مقارنة بين البدائل بنحو محسوب للوصول الى البديل الأفضل .
٦- اختيار أفضل البدائل و الخيارات بالنظر الى الأهداف و المصالح .

و ترى النظرية ، أن اتباع هذه المنهجية ، كفيل بالتوصل الى القرار الرشيد . و قبل أن أنتقل الى الانتقادات التي واجهتها هذه النظرية ، لا بد أن أسجّل بعض الملاحظات على منهجية النظرية . لقد ذكرت النقطة الأولى أن القضية التي يتناولها متخذ القرار ، يجب أن تكون جديرة بالاهتمام مقارنة بالقضايا الأخرى ، و يبدو من ذلك أن المراد أن تكون للقضية أولوية على غيرها ، و إلا فلا ينبغي أن يتعامل السياسي مع القضايا بتصنيفها الى قضايا جديرة بالاهتمام و قضايا غير جديرة بالاهتمام ، فكل القضايا التي تتصل بإدارة الدولة و مصالح البلد و الشعب هي جديرة بالاهتمام صغيرة كانت أو كبيرة . نعم تتفاوت القضايا في مستوى اتخاذ القرار ، فبعضها لا يستلزم قرار رئيس الدولة مثلا ، لكن أيا يكن متخذ القرار و في أي مستوى ، فإن القضايا الداخلة في حوزته يجب أن تكون جديرة بالاهتمام .
و من الطبيعي وجود قضايا عديدة بل كثيرة في حوزة متخذ القرار ، فهنا لا بد من وجود جدول أعمال ، و يتم ترتيب القضايا في جدول الأعمال وفق درجة الأهمية بالمعنى الشامل لفوريتها أو موضوعها أو أثرها . و بناء على ذلك لا بد أن تفرز هذه في المنهجية بنقطة منفردة في التسلسل المنهجي . هي ترتيب القضايا في جدول الأعمال وفق درجة أهميتها . ثم إن النقطة الثالثة تضمنت ( تحديد و فحص الخيارات و البدائل ) و هنا يبرز السؤال التالي : ما هو المراد من الفحص ؟ ، ذلك أن ما يحصل في النقطة الرابعة و الخامسة هو من عمليات الفحص ، فلا بد أن يكون المقصود في الفحص المذكور في النقطة الثالثة محددا كي لا يحصل الالتباس و التداخل بين النقاط .
و إذا ميّزنا بين نوعين من الفحص ، سوف نحل الإشكالية ، فالفحص المطلوب في النقطة الثالثة ، هو فحص كل خيار و بديل من حيث مناسبته للقضية و جدواه في التعامل معها ، لاستبعاد ما لا يناسب القضية من بدائل و ما كان غير مجدٍ في التعامل معها ، و حصر الخيارات و البدائل بالخيارات المناسبة و ذات الجدوى . و هذا ما كان يجب على النظرية ذكره و إيضاحه في تحديد المنهجية .
و هناك ملاحظة أخرى يمكن أن نسجلها على هذه النظرية ، و هي أنها اعتبرت اتباع المنهجية المذكورة فيها كفيلا بالتوصل الى القرار الرشيد ، مع أن ذلك ليس كافيا لتحقيق هذا الهدف ، و إنما هناك عناصر أخرى منها :

١- توفر القدر الكافي من المعلومات التي لها مدخليه في تحقيق الخطوات المذكورة في النظرية ، سواء المعلومات المتصلة بالقضية نفسها أو بتحديد الأهداف و المصالح و ترتيبها حسب درجة أهميتها ، أو تحديد و فحص الخيارات ، أو تقدير النتائج المترتبة على كل خيار ، أو المقارنة بين البدائل و اختيار الأفضل .

٢- أن يكون متخذ القرار على مستوى عال من الكفاءة ، لأن هذه المنهجية بخطواتها تتطلب قدرا كبيرا من الوعي و الثقافة و قوة الإدراك و القدرة على المقارنة و التمييز ، فرشد القرار يحتاج مضافا الى اتباع الخطوات المذكورة في النظرية الى رشد متخذ القرار . و يمكن اعتبار ذلك شرطا في نجاح المنهجية ، كان اللازم أن تأخذه النظرية بعين الاعتبار .

و أما الانتقادات الرائجة التي وجهت الى هذه النظرية ، فقد ذكرها الدكتور جميس أندرسون دون أن يعلق عليها مشعرا بقبولها . و هي :
١-إن تحديد المشكلة من جانب متخذ القرار ، يعتبر مشكلة بذاته . فمتخذو القرارات لا يواجهون مشاكل محددة تم فرزها و تشخيصها ، فحين يطالب الناس بمعالجة التضخم ، فهل يتعلق الأمر بزيادة الطلب أو بقلة العرض أو بتدخل الدولة في التسعير أو بمزيج هذه العوامل ، فالتصدي لمعالجة المشكلة لا ينصب على التضخم ، و إنما على العوامل المؤدية له .
إن هذا الانتقاد في رأيي سطحي جدا و نلاحظ عليه :

أ- إنه لا يمس المنهجية التي قامت عليها النظرية .
ب- إن الانتقاد يفترض اعتماد متخذ القرار على جهده الشخصي في تحديد المشكلة ، و هو افتراض غير صحيح ، فمتخذ القرار يجب أن يعتمد العمل المؤسسي و بالتالي يقوم مختصون بتقديم تقرير مستوعب له ينطوي على كل الحيثيات اللازمة ، و من هذه الحيثيات تحديد المشكلة و بيان محورها و ليس مجرد رفع المدخلات كما هي ( مادة خام ) الى متخذ القرار .
ج- إن افتراض وجود مشكلة غير قابلة للتحديد ، هو افتراض طوباوي ، لا سيما في العصر الحديث الذي يستخدم تقنيات و معايير علمية و منهجية دقيقة .

٢- إن النظرية غير واقعية ، لأنها تفترض أن متخذ القرار ، قادر على جمع المعلومات اللازمة لجميع البدائل و الخيارات المرتبطة بالقضية المطلوب اتخاذ القرار بشأنها ، و افتراض أنه يملك المعلومات الكافية ، أو أن بإمكانه تحديد التوقعات من كل بديل بدقة . فمحدودية الوقت ، و صعوبة الإحاطة بالمعلومات الوافية ، مضافا الى تعذر إجراء الحسابات الدقيقة للمفاضلة بين البدائل ، يجعل هذه النظرية غير واقعية ، فمن حق متخذ القرار مهما كان رشيدا أن يعفى من فعل المستحيل ، و أن يتوقع منه صدور الخطأ .
و نلاحظ على هذا الانتقاد أنه غير واقعي في اعتماده للتعميمات ، و في تفسيره للنظرية تفسيرا مثاليا محضا ، لا أعتقد أنه يعبّر عن تفكير أصحاب هذه النظرية . فمن جهة ليست كل قضية بهذا الشكل الذي يتعذر الإحاطة به من حيث المعلومات و المقارنات ، لا سيما في عصرنا الحاضر و ما بلغه من تطور تقني ، و لعل من غير المبالغ به القول بأن الغالب في القضايا هو إمكانية الإحاطة بها ، و لو فرضنا أن نسبة ما من القضايا هي القابلة للإحاطة ، لكان مطلوبا من متخذ القرار السياسي ، بحكم جسامة مسؤوليته و أثر قراراته ، أن لا يحيد فيها عن سلوك المنهجية التي تنطوي عليها نظرية النموذج الكلي الرشيد . و من جهة ثانية ، فإن النظرية تهدف الى تقديم المنهجية النموذجية التي ينبغي لصاحب القرار رعايتها مهما أمكن ، دون أن تطلب منه المستحيل أو تدينه إذا أخطأ . و ليس مقصود أصحاب النظرية أن اتباع هذه المنهجية كفيل بصوابية القرار بنسبة مئة في المئة على الدوام ، و إنما هو كفيل بنضج القرار و رشده ، و الذي لا يتنافى مع إمكانية الوقوع في الخطأ .
وللكلام تتمة نتاول باقي الانتقادات على هذه النظرية .

٣- بما أن هذه النظرية هي نظرية معيارية وضعت منهجية نموذجية تهدف الى الوصول للرشد النموذجي في القرار ، لذلك لن تكون قابلة للتطبيق ، فمن جهة هناك تفاوت بين القيم الشخصية لمتخذ القرار و قيم و تصورات المواطنين ، و يستحيل إلغاء هذا التفاوت أو تقليصه الى الصفر ، و من جهة ثانية فإن متخذ القرار سيواجه في مرحلة صناعة القرار ، اختلافا في المواقف و وجهات النظر التقييمية لدى المشاركين في صنع القرار و هو ما يترك أثره على درجة الرشد في القرار . إن التفاوت في التقييم لا يمكن حسمه دائما بحسابات علمية و مادية .

يبدو أن هذا الانتقاد المتشعب ، يبتني على تفسير مثالي محض للنظرية ، و كأن المقصود هو الرشد المطلق ، و هو ما يمكن الجزم بعدم كونه مقصودا حتى لدى أكثر المدارس المعيارية تطرفا ، لأن الرشد المطلق بعني الكمال المطلق ، و قد أجمع عقلاء العالم في كل عصر و مصر ، على أن الكمال المطلق خارج عن قدرة البشر . إذن لا مناص أن يكون الهدف في النموذج الكلي الرشيد ، هو الوصول الى أعلى درجة ممكنة من الرشد في القرار السياسي ، و هو ما يتوقف على اتباع المنهجية المذكورة في النظرية . علما بأن التفاوت القيمي كثيرا ما يمكن حسمه بحسابات منضبطة ، مضافا الى أن الحكم الرشيد حيث لا يمكنه إرضاء الجميع فلا بد أن يضع نصب عينيه أولا تحقيق المصلحة العامة ، و بالدرجة الثانية إرضاء الأكثرية .

و نحن نختم الكلام على الانتقادات التي واجهتها نظرية النموذج الكلي الرشيد ، يجب أن نؤكد على النقطة المركزية في هذه النظرية و التي يجب أخذها بنظر الاعتبار في التعامل مع الانتقادات التي واجهتها مما هو من قبيل الانتقاد السالف ، و هي أنها ليست نظرية مثالية ، و لا يقصد بها تحقيق نموذج مثالي ، و إنما تقوم هذه النظرية على معيارية واقعية تهدف الى تحقيق أفضل نموذج يتسنى تحقيقه واقعيا . و سنكتشف أن البدائل عن هذه النظرية هي بدائل بغض النظر عن القصور الذي يعتريها ، فإنها لم تستطع حذف نظرية النموذج الكلي الرشيد ، و إنما تدور محاولات هذه البدائل حول تقييد نظرية النموذج الكلي الرشيد ، بذريعة الواقعية ، غافلة عن الجانب الواقعي في النظرية التي ترمي الى وضع معيارية تحقق أفضل ما هو ممكن واقعيا.

٢- النظرية التدريجية ، و أطلق عليها أيضا اسم النظرية التراكمية ، و سميت أيضا نظرية الرشد المحدود . و لكل من هذه التسميات وجه ، فكل تسمية نظرت من زاوية كما سيظهر بعد شرح النظرية .

إن نظرية النموذج الكلي الرشيد ، قد انطوت على نقاط متسلسلة تعبّر عن منهجية لاتخاذ القرار ، يتبعها متخذ القرار خطوات متتالية . بينما تنطوي النظرية التدريجية على نقاط لا تعبّر عن منهجية اتخاذ القرار ، و إنما عن توصيف لحيثيات اتخاذ القرار ، يقود الى رفض النموذج الكلي الرشيد و استبداله بنموذج الرشد التدريجي التراكمي .

و هذه النقاط هي :-
١- إن الأهداف و المقاصد المطلوب تحقيقها متداخلة فيما بينها ، و ليست مستقلة أو منفصلة .
٢- إن متخذ القرار ، يأخذ في اعتباره بعض البدائل ، و ليس جميعها ، و تظل هذه البدائل متأثرة بالسياسات الحالية .
٣- عند تقييم البدائل المطروحة ، فإن التركيز ينصب على عدد من الآثار المهمة لكل بديل .
٤- إن المشكلة التي تواجه متخذ القرار ، قابلة لإعادة التحديد ، و يراجع تعريفها بين الحين و الإخر ، و تسمح التدريجية و التراكمية بإعادة النظر في العلاقة بين الأهداف و الوسائل ، و تفسح المجال للقيام بالتعديلات المطلوبة ، للسيطرة على المشكلة .
٥- لا يوجد قرار منفرد و لا حل صحيح بعينه للمشكلة الواحدة ، و الاختيار الجيد للقرار هو الذي تتفق عليه كل التحليلات ، و ليس بالضرورة الاتفاق على أنه القرار الأمثل للوصول الى الأهداف المتفق عليها .
٦- إن القرار التدريجي ، هو قرار علاجي يستجيب لطروف الحاضر ، أكثر من كونه منطلقا للتغيير في الأهداف الاجتماعية المستقبلية .
و يرى أصحاب هذه النظرية ، أن التدريجية مقبولة سياسيا ، لأنها تسهل الوصول الى اتفاق في المواضيع المختلف عليها بين الجماعات ، و يصبح البرنامج المعدل هو الأنسب ، بدلا من الالتزام بطريقة ( أحصل على كل شيء أو لا شيء ) . مضافا الى أن القرارات التدريجية تقلل من الأخطاء و من تكاليف المغامرات ، في ظروف عدم التأكد . و كذلك تتلائم هذه النظرية مع الواقع حيث محدودية الوقت المتاح لمتخذ القرارات و محدودية المعلومات . و الناس بطبيعتهم عمليون و واقعيون ، لا يبحثون عن الحلول المثالية و القرارات التي يتعذر تنفيذها ، و يفضلون الحلول الواقعية و العملية .

و يمكن أن نسجل الملاحظات التالية على هذه النظرية :
١- إنها ابتنت على تفسير مثالي محض لنظرية النموذج الكلي الرشيد ، فرمت الى تقديم البديل عنها . و قد تقدم عدم صحة هذا التفسير ، و شرحنا ما هو المقصود في نظرية النموذج الكلي الرشيد ، الامر الذي لا يخرجها عن الواقعية و العملية .

٢- إن هذه النظرية تنطوي على تعميم لا يمكن القبول به ، فالظروف التي تكتنف اتخاذ القرار متفاوتة و قد يكون التفاوت كبيرا ، و نوع القرارات متفاوت أيضا ، إذ ليست كل القرارات قصيرة المدى ، و لا يصح اعتماد طريقة القرارات قصيرة المدى كمنهج دائم ، و هناك القرارات الستراتيجية التي لا يصح في اتخاذها الاقتصار على أهداف و بدائل محدودة ، و هناك قرارات مصيرية مثل قرارات الحرب أو المواجهة و التي تحتاج استيعاب كل العناصر اللازمة و الى استشراف يتسم بسعة الأفق و الدقة .

٣- إن النظرية قامت على مصادرات غير مقبولة ، مثل مصادرة أن التدريجية تضمن على الدوام سهولة الوصول الى اتفاق و حسم الخلافات في الموضوعات محل المساومة ، و مصادرة أن التدريجية تساوق الواقعية على الدوام ، فحينما تكون هناك معلومات كافية حول القضية و قدرة على فحص و دراسة أوسع قدر ممكن من البدائل و الأهداف و النتائج ، الامر الذي يعني الوصول الى قرار أنضج و أرشد ، فليس من الواقعية أن يصار الى مستوى أقل رشدا عند اتخاذ القرار . و مثل مصادرة أن التدريجية تقلل من التكاليف على الدوام ، فربما حصل العكس تماما .

و يجب أن نوضح أن الملاحظات التي سجلناها على هذه النظرية ، لا تلغيها و ليس الهدف إلغاؤها ، و إنما وضعها في الإطار المناسب لها .

إن الباحثين الذين عرضوا نظرية إتزيوني ، هم على ثلاثة أصناف :-
الأول :- عرض النظرية ، على أنها تميز بين الموضوعات المهمة و الستراتيجية ، و الموضوعات الأخرى ، فيجب اتباع النموذج الكلي الرشيد في النوع الأول ، و اتباع نموذج الرشد المحدود في النوع الثاني .

و في هذا الصنف من عرض النظرية ، على أنها تميز بين الموضوعات التي تتاح في اتخاذ القرار فيها ، متطلبات النموذج الكلي الرشيد ، فيجب حينئذ اتباع منهجيته ، و الموضوعات التي لا تتاح في اتخاذ القرار فيها متطلبات النموذج الكلي الرشيد ، فيصار حينئذ الى نموذج الرشد المحدود .

و بناء على عرض هذا الصنف ، لا تنطوي نطرية الفحص المختلط على نوع من الدمج المنهجي بين نظريتي النموذج الكلي الرشيد و نموذج الرشد المحدود ، و إنما تضع كلا منهما في سياقها الخاص بها ، الأمر الذي يعني القول بمرجعية كل من النظريتين ، لكن في إطارها .

الثاني : - عرض النظرية بما يفيد كونها نظرية توفيقية تقوم على الدمج المنهجي بين النموذج الكلي الرشيد و نموذج الرشد المحدود ، و ذلك بالأخذ بالمنهج التفصيلي الذي يستبطنه النموذج الكلي الرشيد ، و لكن بالاقتصار على عدد محدود من الأهداف و البدائل .
الثالث :- عرض النظرية بنحو مشوش لم يوفق في بيان المقصود في النظرية و التحديد الدقيق لكيفية الجمع الذي أنتجته بين نظرية النموذج الكلي الرشيد و نموذج الرشد المحدود ، بحيث يمكن أن نصفه بالفهم الملتبس لنظرية الفحص المختلط .
و بطبيعة الحال ، فإن تقييم صحة عرض كل من الصنف الأول و الثاني ، يتطلب الاطلاع المباشر على ما كتبه إتزيوني بنفسه و أخذ النظرية من مصدرها . و حيث لا يحضرني أثناء كتابة هذا المقال ما كتبه إتزيوني بنفسه ، فسأكتفي بمناقشة نظريته وفق عرض الصنف الأول و عرض الصنف الثاني .

أما وفق عرض الصنف الأول ، فإن الجمع الذي اقترحه إتزيوني يصطدم بقبوله للانتقادات التي وجهت الى نظرية النموذج الكلي الرشيد ، و التي اعتبرتها نظرية مثالية بالغت في التركيز على التفاصيل ، و كذلك نقده لنظرية نموذج الرشد المحدود ، التي وصمها بأنها لا تتناول سوى البدائل المهمة ، و لا تدرس القضية إلا دراسة جزئية ، الأمر الذي يعني عدم جدوى كل من النظريتين في حد نفسيهما كمنهج في اتخاذ القرار . فإذا كان النموذج الكلي الرشيد مثاليا غير قابل للتطبيق ، فكيف نقبل به منهجا حتى في المواضيع الأساسية و الستراتيجية ، و إذا كان نموذج الرشد المحدود معيبا لأنه لا يدرس القضية إلا دراسة جزئية ، و أن التدريجية في اتخاذ القرار تكون على حساب الأقليات و الفئات الضعيفة التي ستُغمَط حقوقها و تُهمَل مصالحها ، فكيف نقبل بهذا النموذج حتى في القرارات غير الستراتيجية و تلك التي لا تحظى بدرجة عالية من الأهمية ، فالمسؤول مؤتمن على رعاية مصالح الشعب بكل شرائحه ، و لا يجب أن يكون في قاموسه موضوع غير مهم ، و إنما تتدرج الموضوعات في درجة الأهمية ، و بالتالي كل قرار مهم يحتاج الى استقصاء البدائل و النتائج .

إذن نظرية إتزيوني وفقا لعرض الصنف الأول لها ، غير مقبولة و تنطوي على مفارقات . وأما وفق عرض الصنف الثاني ، فالنظرية مردودة أيضا ، إذ ما دامت تقوم على رمي النموذج الكلي بالمثالية ، تكون قد ضربت فكرة التوفيق بين النموذجين و ألغت النموذج الكلي الرشيد ، مضافا الى أن التوفيقية التي نادت بها ، ستخضع لذات الانتقادات التي وجهتها الى النموذج الكلي الرشيد ، لأنها نادت بحصر البدائل و الاستقصاء في تفاصيل البدائل المحصورة ، مع أن الاستقصاء في البدائل المحصورة قد لا يكون عمليا لنفس الأسباب المذكورة في مثالية استقصاء البدائل و الأهداف و النتائج . وهكذا نخلص الى أن نظرية الفحص المختلط لم تنجح في الجمع بين النموذج الكلي الرشيد و نموذج الرشد المحدود .

تعليقات

أحدث أقدم