العراق : قوانين شمولية تفضح خرافة الديمقراطية!

مشاهدات

 



د . يحيى الكبيسي 

لم تكن الديمقراطية يوماً خياراً عراقياً لا قبل الاحتلال ولا بعده . فقد كانت خياراً أمريكياً فرضوه بالقوة ولكنهم فشلوا في تحويله من شعار إلى واقع ثم جاء بعدهم من عمد إلى تحويله إلى مجرد شكل لا يحيل إلى أي محتوى حقيقي! وكما قلنا مرارا لم يُنظر إلى «الديمقراطية» إلا بوصفها آلية ترتبط بممارسة الانتخابات حصرا وليس بوصفها نظاما متكاملا يستند إلى مجموعة من القيم والمفاهيم التي لا يمكن أن تقوم هذه الديمقراطية إلا بها. والمفارقة هنا أن حتى هذه الآلية الوحيدة لم يتم احترامها وتم التحايل عليها عبر التزوير المنهجي الذي حرض الجميع على «ضمانه» عبر انتخابات تطيح بتكافؤ الفرص وعبر انتخابات تدار من الأحزاب نفسها من خلال سيطرتها على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وآخر فصل من هذا التحايل قانون انتخابات مجلس النواب الذي تم تشريعه العام الماضي والذي «ضمن» التزوير عبر اشتراطه استخدام البطاقة الإلكترونية القابلة للتزوير والتي تحتفظ الأحزاب السياسية المهيمنة بمئات الآلاف منها منذ انتخابات 2014 وقد استُخدمت من أجل تزوير انتخابات 2018 بدلا عن اشتراط البطاقة البايومترية القادرة على تحجيم التزوير إلى حد كبير .

هكذا ظلت القوانين الحاكمة التي شُرعت في ظل أنظمة شمولية مستمرة النفاد في العراق بعد الـ2003 ولم يسع أحد إلى تعديل هذه القوانين أو إلغائها على اعتبار انها لم تعد صالحة للعمل في سياق نظام «ديمقراطي». والمفارقة هنا ان المحتل الأمريكي كان قد انتبه إلى التناقض الواضح بين استمرار هكذا قوانين ومقولة الديمقراطية التي بشروا بها.

فقد عمد بول بريمر المدير الإداري لسلطة الائتلاف المؤقتة إلى إصدار الأمر رقم 7 في حزيران 2003 أي بعد أقل من شهر على تسلم سلطة الائتلاف المؤقتة مسؤولياتها كسلطة احتلال بتعليق العمل ببعض أحكام قانون العقوبات رقم 69 لسنة 1969 (كان على رأسها تعليق عقوبة الإعدام وعدم جواز إقامة دعاوى ضد مرتكبي بعض الجنايات إلا بموافقة خطية من المدير الإداري لسلطة الائتلاف المؤقتة وهي العقوبات المتعلقة بجرائم النشر (المواد 81 ـ 84) والجرائم الماسة بأمن الدولة (المواد 156 ـ 189، 190 ـ 195، و198 ـ 199، و201 ـ 219) والجرائم الواقعة على السلطة العامة والهيئات النظامية والاعتداء على الموظفين وغيرهم من المكلفين بخدمة عامة (المواد 223 ـ 224، 226 ـ 228, 229)) ومراجعة هذه المواد تكشف اتساقها مع منظومة قوانين نظام شمولي ينظر إلى الدولة وأجهزتها وموظفيها على أنهم «أوصياء» على المواطنين وبالتالي مقدسون لا يجوز المساس بهم! ولم تستوعب ذهنيات الطبقة السياسية الجديدة هذا الأمر لذلك عمدت أول حكومة عراقية مؤقتة تسلمت مهامها في 30 حزيران 2004 من سلطة الائتلاف بموجب الأمر رقم 3 الصادر في 8 آب/ أغسطس 2004 إلى إعادة عقوبة الإعدام وإلغاء تعليق المواد الأخرى المتقدمة وإعادة العمل بها وهو ما يعكس الطبيعة الذهنية للنخب السياسية العراقية التي لا تجد في القوانين الشمولية أي تناقض مع «الديمقراطية» تحديدا تلك المتعلقة بحرية التعبير!

لقد أثبتت الوقائع أن الدولة في العراق بمجموع سلطاتها ومؤسساتها قد قبلت اضطرارا بمفهوم حرية التعبير وانها لم تكن يوما مؤمنة به لهذا تسعى في كل مناسبة وبمنهجية واضحة إلى مصادرة هذا الحق.

لقد عمد «المحتل» عند كتابته قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر في آذار/ مارس 2004 إلى الحديث عن أن «الحق بحرية التعبير مصان» (المادة 13) وعمد أيضا إلى عبارة واضحة لا تحتمل التأويل. وكانت ترجمة «مصان» هنا هي ترجمة للعبارة الإنكليزية «Shall be protected» أي أن هذا الحق تحميه الدولة نفسها. ولكن كاتبي الدستور العراقي كانوا حريصين على تأطير هذا الحق بشكل يتيح التأويل حسب الرغبة فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 38 على أن «حرية التعبير» عن الرأي تكفله الدولة «بما لا يخل بالنظام العام والآداب» ليتيح للسلطة تأويل معنى العبارات الفضفاضة مثل «النظام العام» و «الآداب» وفقا لهواها ومصلحتها.

وهكذا عبارات قابلة للتأويل المفرط والتأويل حسب المزاج نجدها في الدستور المؤقت التي وضعه نظام البعث في العام 1970 فقد نصت مثلا المادة 25 من ذلك الدستور على أن «حرية الأديان والمعتقدات وممارسة الشعائر الدينية مكفولة على أن لا يتعارض ذلك مع أحكام الدستور والقوانين وأن لا ينافي الآداب والنظام العام»!

ومراجعة سريعة لمشروعي قانوني «حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي» و «مكافحة الجرائم الالكترونية» تكشف بوضوح أن ثمة محاولة منهجية لقمع حرية التعبير ومصادرتها بدلا من ضمانها كما تكشف بوضوح أن البنى الذهنية للطبقة السياسية العراقية لا تتسق مع مفهوم «حرية التعبير» وهي أقرب إلى تبني وجهة النظر الشمولية تجاه هذا الحق منها إلى تبني وجهة النظر الديمقراطية. وفي هذا السياق نوردُ هذا المثال عرف مشروع القانون الأول «حرية التعبير عن الرأي» في المادة 1/ أولا بانها «حرية المواطن في التعبير عن افكاره وآرائه بالقول او الكتابة او التصوير او بأية وسيلة اخرى مناسبة بما لا يخل بالنظام العام أو الآداب العامة» دون تحديد معنى النظام العام او الآداب! بل نجد المادة 13/ ثانيا من مشروع القانون تستنسخ بالكامل المادة 372 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المادة 13/ ثانيا بجميع فقراتها والتي تم تعديلها في العام 1995 لتكريس مناهضة حرية التعبير والراي من جهة ومن اجل استخدام هذه المواد الفضفاضة والقابلة للتأويل في معاقبة منتقدي النظام ومعارضيه حينها! دون أن يشعر واضع مشروع القانون هذا بأي «إشكالية» في هكذا استنساخ فالبنية الذهنية هي نفسها!

كما تضمن مشروع قانون «مكافحة الجرائم الالكترونية» نصا يؤكد ضمان القانون لـ «حرية التعبير عن الرأي وحرية المعارضة الموضوعية والنقد البناء في الحدود التي أقرها الدستور والقوانين النافذة» وللقارئ أن يتخيل كيف ومن سيقرر ما معنى الموضوعية وما معنى النقد البناء مع قضاء مسيس وخاضع لإرادة الفاعلين السياسيين الأقوى؟

فهل ما زال هناك من يصدق خرافة الديمقراطية في العراق في ظل طبقة سياسية زبائنية وسلطات دولة تحولت الى إقطاعيات لأصحابها؟

تعليقات

أحدث أقدم