من قصص الأسر . شمَّر العربية ملء العين والأذن والفم

مشاهدات

 



نزار السامرائي

لافي حضيري دانوك شمري من اهالي تلول الباج في محافظة نينوى أنا لا أعرفه ولم التق به اهله لا دار لهم في أرض وطنهم سوى بيت شعر يؤويهم ويَقيهم من المطر وبرد الشتاء ومن أشعة الشمس وحر القيظ ويتنقلون به إلى حيث الماء والكلأ والهواء النقي ويرعون أغنامهم التي يباهون أن الانبياء عليهم السلام كانوا رعاة أيضا .

ذات يوم وفي لحظة هزيمة نفسية وعندما كانت الحرب مع إيران في أشد صفحاتها قوة وعنفوانا خذلته شجاعته المعهودة بين أقرانه فقرر الهرب من العراق إلى السعودية جعل هذا القرار قرارا سرياً لم يخبر به أحدا من أهله لأنه يعرف أنهم سيقرّعونه عليه ويثنونه عنه حتى لو استخدموا القوة معه قرر أن يبتعد قليلا عن أجواء الحرب التي كانت جثامين شهدائها تترى إلى مختلف مدن العراق وخاصة مدينة الموصل ظنا منه أن هربه هو المنجاة من الموت صُعق أهله من قراره بالهرب والذي تفاجأوا به وحاولوا أن يحذفوا هذا الحادث من ذاكرتهم ولكن من دون جدوى فالقصة تُعكر عليهم أجواءَ الفخر الذي كانوا عليه قبل أن يهرب وكانوا يبعثون إليه برسائل اللوم والتوبيخ ويُلحون عليه بالعودة أيرضيك أن تُنكّس رؤوسنا بين رجال القبيلة؟ 

بدأ ضميره يؤنبه أنه هرب وتسبب لأهله بكل هذا الأذى ولنفسه بهذا الذل ولوطنه بالخذلان في وقت احتياج وطنه إليه ليرد إليه قليلا من الدين كان يسأل نفسه بصمت أي دين لوطني بذمتي؟ أنا وأسرتي نعيش في بيت شعر من دون زيادة ونقصان ولا نمتلك شبرا من الأرض لنقول إننا أبناء أرض نقيم فوقها نحن نتنقل من مكان إلى آخر لنضمن استمرار حياتنا مع "الحلال" أي الأغنام التي نمتلكها وهي والحمد لله بالمئات وتكفينا مؤونة طلب العون من أحد عندما كان يعود إلى ضميره سرعان ما يرجع إلى وعيه ويعرف أن ما لديهم هو بفضل الله والوطن وما يبذلونه من جهد .

وعند صدور قرار القيادة بالعفو عن الهاربين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية منتصف عام 1987 عاد الى الوطن بشوق ولهفة نادماً على ما فرط في جنب الوطن قبل وصوله إلى مضارب أهله كان يتساءل مع نفسه بأي وجه سأواجه أهلي وأبناء قبيلة شمر التي لم تُسجِل في تاريخها حالة هرب واحدة من منازلة وكيف سأواجه أمي ونساء الحي من هذا الذي خلّفته لهم؟

بعد أن استكمل الإجراءات العسكرية الأصولية التحق بالخدمة العسكرية من فوره وتم تنسيبه لوحدة عسكرية في القاطع الشمالي كان لا يُجيد القراءة والكتابة وحتى دروس محو الأمية كان يتهرب منها ويأنف من الدخول فيها لأنه كان يشعر بخجل كبير إذا جلس وراء مقاعد الدراسة ويحفظ مثلا عراقيا يقول "عكب ما شاب ودوا للكتاب" أي بعد أن وصل مرحلة الشيخوخة ذهب إلى المدرسة وقال لي "هكذا تحدث مع آمره السيد أبي زياد والذي نقل لي تفاصيل القصة عندما كنا نقضي بعض الوقت في استراحات الأسر" بعد عدة سنوات عندما كنا في خرابة ناصر شاه أي قلعة قمصر كاشان إنه عاد ومعه سيارة بيك آب تويوتا ولما لم يكن يُحسن كتابة اسمها فقد استغل شيئا من ثقافة العراقيين المتأصلة فيهم منذ القدم بالفنون التشكيلية ورسمها لي وكان فخورا بها.

يُضيف رفيق محنة الأسر في إيران الصديق أبو زياد الضابط الموصلي الشهم والذي ينتمي إلى فوج مغاوير الفرقة 24 وأُسر في قاطع عمليات سردشت يوم 5 آب 1987 بعد هجوم مباغت شنه الإيرانيون في القاطع، فيقول شاءت الصدف ان التقي به أثناء فترة الحجز أيضا بعد عدة شهور في مركز الانضباط العسكري الإيراني المركزي "دجبان مركز" في طهران حيث أخذنا ما قسمته لنا المقادير من أنواع التعذيب الذي يبدع الإيرانيون في إضافته إلى سجلهم الأسود من أجل تسقيط أكبر عدد من أسرى تلك المعركة وبإشراف جلاد الأسرى الاكبر "رو نواز" آمر استخبارات شؤون الأسرى والمسؤول الأول عن تسقيط أعداد كبيرة من الأسرى الذين لم يتحملوا فنون التعذيب التي مارسها زبانية رو نواز ويُضيف أبو زياد أذكر أنه سألني بلهجته البدوية التي لم تغيرها الأيام والسنون قائلا "سيدي أبو زياد هذولة شيبون مننا؟ ويقول أبو زياد إنه قال له بعفوية وبساطة هذولة يبون يسقطوننا ونصير إيرانيين وبحزب شايبهم خميني ولكنني لم أتصور أن هذه الكلمات التي قلتها له ستفقده ضبطه العسكري الذي كان حريصا عليه طيلة الأيام التي أمضيناها معا فقد انفجر صائحا و بلهجته البدوية المعهودة اسمعوني يا هل الربع اني شمري عربي عراقي ماني بعثي ولكن سجلوني بعثي من اليوم وحشر مع الرفاق عيد تجمع الجنود عندما سمعوا صراخه ظنا منهم أن شجارا قد وقع بين الأسرى وهذا ما يتمنونه لغرض التسلل عبر أي اختلاف بين الأسرى وتوظيفه لخرق صفوفهم سمع رو نواز جانبا من الضجة التي حصلت عندما كان جالساً في مكتبه أمر جنوده بجلب لافي حضيري دانوك وبقي يستجوبه وسط أجواء من التخويف والإغراء لأكثر من ساعة ولكنه لم يُحقق أغراضه من ذلك فأمر بإخراجه من مكتبه ثم أوعز للجلادين أن يُبعدوه عن وجهه فباشروا بتعذيبه جلدا وأمروه بالزحف على الثلج الذي كان يغطي الساحة الخارجية للمركز وهذا تقليد فارسي لطالما عانى منه الأسرى العراقيون في مختلف المعسكرات يقول أبو زياد شعرت بألم يعتصرني أنني قلت له تلك العبارات التي حولته من إنسان وديع إلى بركان متفجر إنه الغضب البدوي العربي الأصيل الذي يأبى الإهانة ويرفض الذل كان مع كل سوط ينزل على ظهره يئن بصمت ولكنه كان يتلفظ بعبارات تعبر عن اعتزازه بقبيلة شمر وأصله العراقي ويردد لن أخذلكم يا أهلي أبدا ولن أهرب من هذا الموقف كما هربت قبلا من الخدمة العسكرية.

لم تستغرق خدمة لافي العسكرية طويلا فراح يلوم نفسه ويردد معي ومع بقية الأسرى أكل هذه الحقارة يحمل أعداؤنا؟ والله إن العراق كان على حق طيلة تاريخه معهم وخاصة في هذه الحرب عندما دافع عن أرضه وعرض العراقيات وشرف العراقيين كل هذه السنوات وقدم هذا العدد الكبير من الشهداء الوطن يستحق كل التضحيات ويتساءل بمرارة كيف يخون بعض أبناء العراق "الزاد والملح"؟ هل يشعر أحد منهم بتأنيب ضمير؟ لا أظن لأن من يخون وطنه بلا ضمير ولا أخلاق أصلا .

يقول صديقي أبو زياد انقطعت أخبار لافي منذ أن افترقنا بعد أن تم فصل الضباط عن المراتب .

تعليقات

أحدث أقدم