موسم الهجرة إلى الوطنية: مرة رابعة

مشاهدات

 


د . يحيى الكبيسي 

في العراق دائماً ما ترتبط الانتخابات بالهجرة إلى الوطنية ففي انتخابات مجالس النواب في الأعوام 2010 و2014 و 2018 ارتفعت خطابات تشكيل كتل انتخابية «وطنية» أي الكتل العابرة للولاءات الأولية/ الهويات الفرعية القومية والدينية والمذهبية وفق معادلة ضمنية متوهمة بأن (طائفي + طائفي + قومي = كتلة وطنية)!

بعد الاحتلال الأمريكي للعراق كانت مقولة «الهويات الفرعية» حاسمة في صياغة كل ترتيبات ما بعد الاحتلال ولم يكن الأمر مجرد رغبة أمريكية بل كان تنفيذا لخيار تبنته القوى الرئيسية التي شكلت ما سمي بالمعارضة العراقية بداية من أول مؤتمر للمعارضة العراقية في بيروت في آذار/ مارس العام 1991 وانتهاء بمؤتمر لندن في كانون الأول/ ديسمبر العام 2002 والذي مهد للاحتلال! هكذا كان الجميع آنذاك إسلاميين وقوميين ليبراليين ويساريين حقيقيين أم مفترضين ينخرطون في هذه اللعبة الهوياتية دون «مراجعة» ! وعودة إلى أسماء أعضاء مجلس الحكم التي تم تسميتهم على أساس هوياتهم الفرعية وليس على أساس انتماءاتهم الأيديولوجية ستكشف عن هذه الحقيقة! وقد لخصت لحظة تشكيل الليبرالي المفترض أحمد الجلبي للبيت الشيعي هذا المشهد برمزية لافتة!

وفي خضم الصراع المحتدم على السلطة وفي ظل الاستراتيجيات المعلنة والمضمرة في اعتماد الطائفية السياسية وتسييس الهويات التي ضمنها دستور تم تصميمه بمنهجية ليكون حاملا لذلك كله وفي سياق أحزاب وقوى سياسية تستمد وجودها وحضورها وديمومتها من خلال تمثيلها لهذه الهويات الطائفية (الإثنية والدينية والمذهبية) حاول الجميع في العام 2010،التلاعب بهذه الحقيقة عبر تشكيل كتل «وطنية» زائفة كانت «القائمة الوطنية العراقية» بزعامة أياد علاوي نموذجها الرئيسي فقد تشكلت القائمة من جميع القوى السنية الرئيسية باستثناء الحزب الإسلامي الذي فاوض على الانضمام للتحالف ولكن المفاوضات لم تنجح فضلا عن حركة الوفاق التي يتزعمها أياد علاوي . ولم يكن تشكيل هذه الكتلة خيارا محليا بل كان خيارا إقليميا (دعمت 6 دول هي السعودية والإمارات وقطر والأردن وسوريا وتركيا هذا التحالف ومولته) ولكن هذا التحالف الذي استطاع الحصول على المركز الأول في الانتخابات سرعان ما تشظى على أسس هوياتية لاسيما بعد فشله في الحصول على منصب رئيس مجلس الوزراء!

في العام 2014 كرر أياد علاوي اللعبة بعد أن وجدها «مثمرة» بمعزل عن مصداقيتها! فرغم تشظي القائمة «الوطنية» المفترضة مرة أخرى على أسس هوياتية بحت بعد الانتخابات مباشرة استطاع الرجل أن يستحوذ على منصب نائب رئيس الجمهورية بصفته «الشيعية» وليس «الوطنية المفترضة» (بموجب قانون تم تشريعه في العام 2011 لرئيس الجمهورية الكردي حتى اللحظة 3 نواب شيعيين وسني في العام 2011 تم تعيين كل من عادل عبد المهدي وخضير الخزاعي الشيعيين وطارق الهاشمي السني نوابا للرئيس وبعد انتخابات العام 2014 تم تعيين الشيعيين نوري المالكي وإياد علاوي والسني أسامة النجيفي نوابا للرئيس)

في العام 2018 كرر علاوي اللعبة مرة ثالثة ونجح من خلالها في الاستحواذ على منصب وزير الدفاع لمصلحته رغم تفكك القائمة التي شكلها بعد الانتخابات على أسس هوياتية أيضا وللمرة الثالثة بتخلى جميع النواب السنة الذين فازوا معه عن القائمة وتحالفهم مع قوائم سنية!


واليوم يحاول أياد علاوي للمرة الرابعة العودة إلى النموذج ذاته فهو ما زال يعتقد أنه نموذج صالح للاستثمار بمعزل عن مصداقيته أو تعبيره الفعلي عن قائمة عابرة للهويات الفرعية! وفي مقال نشره السيد عمار الحكيم رئيس تيار الحكمة الوطني في نوفمبر 2020 دعا من خلاله إلى تشكيل تحالف انتخابي عابر للمكونات ممثل للجميع وطني التوجه والإرادة. يشارك فيه ممثلون عن قوى سياسية من جميع الساحات (اقرأها من جميع الطوائف) تمتلك ثقلا سياسيا واجتماعيا وتاريخا نضاليا واضحا إلى جانب القوى المنبثقة عن حراك تشرين. وقال إن هكذا تحالف سيؤسس لشراكة الأقوياء.

وفي انتخابات عام 2018 عمد رئيس مجلس الوزراء حينها الدكتور حيدر العبادي إلى استثمار الانتصار العسكري الذي تحقق على تنظيم داعش وذلك بتشكيل تحالف عابر للهويات الفرعية تحت مسمى «تحالف النصر» ضم الحزب الإسلامي وقوى سنية أخرى أرادت الاستثمار في هذا التحالف ليكون رافعة لهم! وفعلا استطاع هذا التحالف أن يحصل على المركز الأول في محافظة نينوى وحقق 168112 صوتا وبالتالي تحصل على 7 مقاعد كانت 6 منها لمرشحين عرب سنة لم يبق أي منهم ضمن تحالف النصر! في حين حصل الحزب الإسلامي على 5 مقاعد بفضل تحالفه مع هذه القائمة (مقعدان في كل من صلاح الدين والأنبار ومقعد في بابل) ولكنه انسحب من التحالف بعد الانتخابات مباشرة وأصبح يفاوض على حصته منفردا (استطاع الحصول على منصب وزير التخطيط بعد تحالفه مع كتلة البناء بمعزل عن تحالف النصر)!

لقد قامت الجماعات السياسية الرئيسة في العراق المهيمنة على المشهد السياسي منذ نيسان 2003 أي منذ نشأتها على مقولات طائفية بوصفها مقولات سياسية ومن ثم فهي بطبيعتها أحزاب «طائفية» أي أنها لا يمكن إلا أن تكون أحزابا كردية أو شيعية أو سنية! وتكرس الأمر لاحقا مع «الدكاكين السياسية» التي تشكلت بعد العام 2003 والتي تبنت بمجملها مقولات هوياتية . وبالتالي فإن الطائفية المتجذرة في العراق لا تستمد حضورها من الخطاب فقط بل من انقسامات أكثر عمقا تتعلق بانقسام الذاكرة نفسها وانقسام الرؤى السياسية والانقسام حول شكل الدولة ومستقبلها!

إن احتجاجات تشرين التي شكلت نموذجا مبشرا بهوية «وطنية» بحدها الأدنى سرعان ما تم وأده ومراجعة الفعاليات السياسية التي تم إعلانها حتى اللحظة لتمثيل حركة الاحتجاج تكشف عجز هذه الفعاليات عن البناء على هذه الهوية! كما يبدو واضحا أن الحزب السياسي الذي يحظى بدعم السيد مصطفى الكاظمي لن يختلف كثيرا عن نموذج تحالف النصر الذي شكله العبادي في العام 2018 من دون أي مؤشر على إمكانية تكرار النجاح النسبي لذلك النموذج حتى اللحظة!

ليس مطلوبا اليوم سوى الجمع بين كتل ذات هويات طائفية مختلفة في إطار تحالف «وطني» مفترض! في سياق معادلة غير منطقية يراد تسويقها من جديد مفادها أن (طائفي + طائفي+ طائفي = عبر طائفي)! على الجميع اليوم الاعتراف بطبيعة الانقسام المجتمعي الحاد الذي تفجر بعد العام 2003 وكرسته الأحزاب في إطار صراعها على السلطة وعلى الجميع أيضا مواجهة حقيقة أن ثمة صراعا عنيفا على السلطة بوصفها استحقاقا هوياتيا من شأنه أن يعيق أية محاولة حقيقية من أجل انتاج كتل وطنية حقيقية!

تعليقات

أحدث أقدم