سلفادور دالي

مشاهدات

 


ضرغام الدباغ

كتبت مرة في إحدى مداخلاتي . أن ربما من محاسن الصدف أن لا تتعرف على الكثير من الأدباء والفنانين وتبقى صلتك بهم عبر المنشور من أعمالهم فتبقى معجباً بهم من بعيد لبعيد ...أو أن تكن لديك القابلية والقدرة (وهذه ليست مسألة سهلة وفق الأمزجة الشرقية) أن تفصل بصورة تامة أو شبه تامة بين معرفتك الشخصية أو من خلال معلوماتك الثقافية العامة وقراءتك الغزيرة بين المنتوج الأدبي والثقافي والفني لهذا الكاتب أو الفنان أو ذاك.

وفي بعض الحالات تقرأ أو تسمع معلومة تفسد رؤيتك وإعجابك بهذا الأديب أو الفنان لدرجة تشوه الرؤية بصفة تامة أو جزئية . فعلى سبيل المثال كنت معجباً بدرجة كبيرة جداً بالشاعر البريطاني اللورد بايرون إلى أن قرأت كتاباً ألمانياً رصيناً (وترجمت لاحقاً فصول منه) يبحث في الأشياء والأخبار والمعلومات الغريبة والغير المعروفة فعلمت أن الشاعر بايرون كان يقيم علاقة جنسية محرمة مع أخته (زنا محارم) وحاولت كثيراً أن لا تؤثر هذه المعلومة على تقديري للورد بايرن سيما وأنه كان قد كتب قصيدة رائعة عن ملك عراقي (ساردنبال) ولكني أعترف أني لم أنجح كثيراً.

ومثل هذا الرسام الفرنسي / الروسي الأصل مارك شاغال الذي لم أعد أهضم أعماله بعد أن علمت أنه رسم جدارية عنصرية تمجد القتل والاستيلاء والضم والإلحاق وهذه أفكار عنصرية توسعية أستعمارية / أستيطانية لا ينبغي أن تتوفر عند فنان والفنان بتقديري أن هو إنسان طليعي وتقدمي وأبعد ما يكون عن هذه المفاهيم الرجعية.

ولكن هناك من الأخبار ما هو أهون ويمكن هضمه وإن بصعوبة حول الكثير من الأدباء والشعراء والفنانين فمثلاً أنا لا أطيق الأدباء إن كانوا خونة لشعوبهم ثم أنني أعتقد أن كل أديب أو فنان هو إنسان تقدمي حتماً ويقف لجانب شعبه والكادحين أي أنه يتقدم الجماهير بفكره أو بفنه ويصعب على احتمال فكرة غير تلك ربما لأننا نعمل بالسياسة أو متأثرين بها بدرجة كبيرة.

وأستثناء من هذه الملاحظات فأنا معجب ومحب باعمال الرسام الأسباني سلفادور دالي والذي هو دون أدنى ريب من عظماء الرسامين المعاصرين بصرف النظر عن مسلكه الشخصي وفكره السياسي.

فأنا كنت قد تعرفت على دالي (فنياً بالطبع) منذ صباي أو شبابي وكنت أهوى أعماله وأبحث عنها حيثما تنشر أو توجد وقد أسعدني الحظ أن أشهد بعض من أعماله (باريس / اللوفر 1974) كما أقتنيت إحدى أشهر لوحاته : إغواء القديس أنطونيوس حجمها الحقيقي 89x 119 سم وكان دالي قد أنجزها عام 1946 تحمل فكر دالي التقليدي أن صراع القديس انطونيوس مع إغراءات الشيطان ولا تشير إلى أنتصاره عليه ...! (اللوحة موجودة في متحف الفنون في بروكسل / بلجيكا) اشتريتها مطبوعة ولكن بنسخة فاخرة من شارع كورنيش الفن الشهير المحاذي لنهر السين بباريس بالقرب من اللوفر كما هو معروف.

ثم أني سعدت مرة أخرى عندما عرضت الحكومة الألمانية الديمقراطية (الاشتراكية) أعمالاً كثيرة لدالي في برلين عرضتها في كنيسة (Marien Kirche) عام 1983 ووقتها دفعت السلطات الألمانية الأشتراكية مبلغ 3 ملايين دولار فقط كتأمينات لجلب اللوحة بطائرة خاصة عدا نفقات أخرى وعرضتها في هذه الكنيسة الأثرية الرائعة بوصفها أول كنيسة لوثرية في برلين وربما في العالم وهي بذاتها أثر تاريخي وفني/ معماري كبير دون أن تهتم الحكومة الألمانية بفكرة أن دالي كان يمينياً معادياً للأشتراكية بل كان من القلة النادرة للأدباء والفنانين المؤيدين لفرانكو الفاشي وفي ذلك عبرة . عبرة أن تجلب حكومة أشتراكية أعمال فنان كهذا ..! العبرة في النظر إلى الجانب الفني فقط ..!

دالي كان مؤيداً للفاشية وفوقها سليط اللسان ولكنه ظريف وظرافته وقحة فقد سأله مرة صحفي أنه كان صديق لوركا الشاعر ولوركا كان وسيماً فهل يا ترى كانت بينهم علاقة جنسية لم يجب دالي ولكنه ضحك بنبرة ومعنى أن نعم. ثم أنه مرة ذهب ليفتتح معرضاً مهماً له وأنتظره الجمهور بلا طائل فإذا بسيارة تقف وينزل العمال منها تابوتاً أحضروه إلى المعرض ويفتحوه فإذا به دالي نفسه بشواربه المعقوفة وسط دهشة الجمهور وأستغرابهم... ثم أن دالي كان سفيهاً قليل التهذيب ففي أول لوحة باعها وقبض ثمنها أرسل أوراقاً نقدية لوالده بعد أن أستمنى عليها وكتب له " لم أعد مديناً لك بشيئ ".

ولكن مع كل هذه المقدمات التي لا تبدو كلها لطيفة فإن أعمال دالي عبقرية لا يستطيع المرء تجاهل قيمتها الفنية العالية جداً ... بالنسبة لي كان دالي يمثل دائماً قدرتي على الحكم بموضوعية وتجاهل (وإن ليس سهلاً) الميول الشخصية والسياسية وغيرها وأنا وإن كنت من أنصار المذهب التقدمي: الفن للمجتمع والقضية والمضاد لمذهب الفن للفن المثالي الرجعي إلا أنني أستطيع أن أقدر الأعمال القوية ولمن يطرح ما يريد بطريقة جميلة.

أحببت أن يشاركني الصديقات والأصدقاء القراء هذه التجربة الثقافية
اللوحة : محاولة القديس أنطونيوس دالي / 1946.








تعليقات

أحدث أقدم