كيف نتنبأ بالقادم من الأحداث

مشاهدات

          

 



ضرغام الدباغ

ثمة ظواهر في السياسة العالمية مثيرة للقلق من جهة ومن جهة أخرى ستقود إلى مزيد من التسارع في الاستقطاب بدرجة لن تدع فسحة من المجاًل للمواقف الوسطية والتوفيقية . فالتدهور يتواصل في المواقف السياسية على كافة الساحات وبؤر التوتر وجائحة كوفيد 19 (كورونا) بآثارها المختلفة وتصاعد الإصابات التي ربما اقتربت من حجم 100 مليون إصابة والوفيات تجاوزت 2 مليون إصابة عدا ما يصعب إحصاؤه وتقديره من الخسائر الاقتصادية وهذه أرقام ومعطيات حروب عالمية. أميركا تفسد التعامل على مستوى العالم بسبب شعورها بفقدان السيطرة في العالم . ستضرب عشوائياً .. تعتدي على أمم صغيرة وضعيفة فتبتز مواقف ومكاسب مالية وسياسية . ذكرت مالية أولاً لأنني بت مقتنعاً أن ربح المال حتى القليل هو هدف كبير للرأسمالية دون أدنى اكتراث للخسائر البشرية فهذا آخر ما يفكرون به.

وكنت قد قرأت مرة مقولة لكارل ماركس ما معناه : أن الرأسمالي يقدم دون وجل عندما يتجاوز ربحه 10% أما بنسبة 40% فهو مستعد للمجازفة وبنسبة 75% فهو يقدم وإن كان الخطر يحدق به أما إذا تجاوز ربحه 90 فهو يقدم على المغامرة حتى تحت ظلال المشنقة. وماركس كان قد درس ابتداء الفلسفة والاجتماع في جامعة برلين قبل إقامته في باريس ودراسته الاقتصاد . والرأسمالية المعاصرة هي اليوم أكثر شراسة ووحشية بأضعاف مضاعفة عن رأسمالية زمن ماركس فالرأسمالية تزداد توحشها كلما يبدو لك أنها شبعت ذلك لأنها تحسب التراكم والفوائض والأرباح المركبة ... وبذلك فإن أي مبلغ يبدو لك صغيراً هو كبير بالنسبة للرأسمالي. وسأضرب لك مثلاً بسيطاً جداً أن احتكار أكسون الأمريكي (EXXON) العملاق يتعامل بمئات المليارات وإذا كان مجال نشاطه الرئيس هو النفط تنقيبا واستخراجاً ونقلاً وتسويقا وشراء وتصفية وبيع بالجملة والمفرد ولكنه لا يمانع بالدخول في أعمال صغيرة قد يتصور البعض أنها لا تناسب مقامه ..!

فمقامه هو الأموال التي تهطل فوق جبل المال ليتضاعف ... فالنهر الكبير الصاخب يتألف من فروع كثيرة جداً والدولة الأمريكية برئيسها وحكومتها وجيشها إنما هو خادم صغير لأكسون وأمثاله من الاحتكارات وهذه الدولة تعيش وتأكل من فتات من تقدمه هذه الاحتكارات. هذه هي لب القاعدة وجوهرها لحل أي معادلة سياسية في الولايات المتحدة . لا صداقات لا تحالفات . لا أخلاقيات ولا أي اعتبار قبل اعتبارات المصالح المادية. وقد شاهدت بنفسي منظراً لا يصدق رغم إقامتي الطويلة في أوربا إذ يهدي حاكم كندا ترودو للرئيس الأمريكي رونالد ترامب خلال زيارته لكندا صورة فوتوغرافية مؤطرة لمبنى قديم لم يفهم ترامب معنى ذلك وتولى ترودو شرح الأمر قائلاً : " السيد الرئيس .. جدك المهاجر الألماني إلى كندا (قبل الولايات المتحدة) أقام في مدينة كندية وأسس دار للدعارة فيها وهذه هي المبنى الذي أسسه جدك ". لم يكترث ترامب ولم يرف له جفن أخذ الصورة وأعطاها لمرافقه وكأن شيئاً لم يكن. وكأن لسان حاله يقول لترودو : " وأنا اليوم حفيده الرئيس دونالد ترامب وفوق هذا أحد مليارديرات أميركا والعالم وأزور كند وتفرش لي حضرتك سجادة حمراء ..". واليوم تدرك الولايات المتحدة أن سجادة الثروة والنفوذ تسحب من تحت أقدامها حبة فحبة شيئاً فشيئاً وهي تخسر يوميا على مدار الساعة مواقعاً ونفوذا في جميع أرجاء العالم أبتدأ من معاقل حلفاءها في أوربا وأنتهاء في الشرق الأدنى الآسيوي. صحيح أن هذا يدور ببطء ولكن الأمريكان يعلمون أنه مسار تاريخي حتمي وسوف لن يتوقف أو يتغير إلا بأعمال خارقة. وفي مرور سريع على معالم هذا التراجع ووفقاً لتقرير نشره مركز البحوث الاقتصادية "آي أتش أس غلوبال إنسايت" في يونيو/حزيران 2010 فقد بات القطاع الصناعي الصيني على وشك أن يتجاوز نظيره الأمريكي. وأوضح التقرير أن قيمة البضائع التي تنتجها المصانع الصينية وصلت العام الماضي إلى 1.6 تريليون دولار مقارنة بنحو 1.7 تريليون دولار أنتجتها المصانع الأمريكية. على أن الطاقة الإنتاجية الأمريكية حالياً تتزايد بثبات كل شهر ووصلت إلى 74.7 % قبل عام (2009) لكنها تظل دون المعدل العام الذي وصلته سابقاً والذي وصل إلى 81 %. وكانت الطاقة الإنتاجية الصناعية الأمريكية قد تراجعت إلى 68.2 % في حزيران عام 2009 وأغلقت بعض مصانع "كرايزلر" و"جنرال موتورز" بسبب الإفلاس. وكانت الصين قد قالت في وقت سابق إن صادراتها ارتفعت بنحو 18 % في كانون الأول حيث بلغت صادراتها من السلع 957 بليون (مليار) دولار في الشهور العشرة الأولى من عام 2009 فيما صدّرت ألمانيا بضائع بـ 917 بليوناً في الفترة ذاتها لتواصل الصين صعودها إلى مصاف القوى الاقتصادية العظمى. هذه المعطيات كانت لعقد مضى (عسرة سنوات) ولنلاحظ حجم التطور ومؤشراته ولنقدر وقعه على صناع القرار في الولايات المتحدة...

صادرات الصين تتخطى التوقعات وترتفع إلى 21.1 % في نوفمبر ارتفعت صادرات الصين في تشرين الثاني/نوفمبر بأسرع وتيرة لها منذ ما يقرب من ثلاث سنوات حسبما أظهرت الأرقام الرسمية الاثنين في وقت ساهم ازدياد الطلب في أسواق رئيسية قبل فترة الأعياد في تحقيق فائض تجاري قياسي. وتعد الأرقام دفعة جديدة من الأخبار الجيدة في ثاني أكبر اقتصاد في العالم والذي يشهد انتعاشا بعد تدابير إغلاق للحد من فيروس كورفيد 19 (كورونا) أدت إلى انكماش قل نظيره في وقت سابق من العام. وارتفعت الشحنات إلى الخارج بنسبة 21.1 % على أساس سنوي الشهر الماضي لتبلغ قيمتها 268 مليار يورو مدعومة بطلب قوي على السلع الطبية والالكترونيات . والأرقام التي تعد الأفضل منذ شباط / 2018 تخطت نسبة 12 % التي توقعها محللو بلومبرغ وجاءت أفضل بكثير من النسبة التي سجلت في تشرين الأول/أكتوبر والبالغة 11,4 %. وتمثل البيانات نموا للشهر السادس على التوالي. لكن الصادرات ارتفعت بنسبة 4,5 % أي أقل من التوقعات بنسبة 7 % وأقل بقليل عن الشهر الذي سبقه. في الأشهر الـ11 الأولى من العام أظهرت بيانات الجمارك ارتفاع صادرات المنسوجات ومنها الأقنعة بنسبة 33 % مع فرض حكومات في العالم تدابير لاحتواء الفيروس. وأظهرت البيانات أيضا أن فائض الصين مع باقي دول العالم بلغ 75,41 مليار دولار في تشرين الثاني/نوفمبر مقارنة بـ 58,44 مليار في تشرين الأول هو الأكبر منذ 1990 بحسب "بلومبرغ نيوز". في تشرين الثاني/نوفمبر ارتفع الفائض للصين مع الولايات المتحدة وهو نقطة نزاع رئيسية في الحرب التجارية بينهما إلى 52 % مسجلا 37,4 مليار دولار.

فاينانشيال تايمز: اقتصاد الصين يحقق نموا 21.3% وسط إقبال عالمى على منتجات بكين قالت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية إن صادرات الصين نمت بأسرع وتيرة لها هذا العام في شهر تشرين الثاني / 2020 مع ارتفاع الطلب العالمي على البضائع الصينية مما رفع الفائض التجاري لأعلى مستوى شهري له على الإطلاق . وارتفعت الصادرات بالدولار حوالي 21.3% الشهر الماضي مقارنة بالشهر نفسه في العام السابق بحسب ما أظهرت البيانات الرسمية وهو أسرع معدل منذ فبراير 2018 وكان خبراء الاقتصاد الذين تواصلت معهم بلومبرج قد توقعوا أن تكون الزيادة 12% فقط. واكتسب معدل صادرات الصين زخما في كل شهر منذ يونيو وبحلول أكتوبر حقق أعلى مستوى في 19 شهرا وساهمت الصادرات في تعافى البلاد سريعا من الوباء وزادت من هيمنتها في بيئة غير محددة للتجارة العالمية. وكان الفائض التجاري الصيني في تشرين الثاني / 2020 75.4 مليار دولار وهو أعلى رقم مسجل وأيضا أعلى من رقم 58.4 مليار دولار المسجل في تشرين الأول / 2019. وتقول الصحيفة أنه بينما استفاد الأداء التجاري الصيني من تعافى عالمي أوسع فإن طفرة الصادرات التي حققتها البلاد جاءت مدعومة من الشهية الدولية المتزايدة للمنتجات الناتجة عن الوباء وما ترتب عليه من إغلاق مثل معدات الوقاية الشخصية والمنتجات الإلكترونية. وقال لويس كوجس رئيس اقتصاديات آسيا فى أكسفورد إيكونوميكس إن الكثير من المشتريات التي لها علاقة بكورونا لن تحدث مجددا ونتوقع في النهاية تراجع دولي من البضائع إلى استهلاك الخدمات حيث ستخفض إتاحة الحاجة إلى التباعد الاجتماعي . تراجع الولايات المتحدة هكذا تتراجع الولايات المتحدة ببطء ولكن الأرقام تقشر وقار الحقيقة .. وهذه المعطيات تظهر الحقائق الموجعة بوضوح وصراحة. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة سون لن ترضخ لهذه التطورات غير السارة بل سترد بقوة هنا وهناك وبما يسمى "القتال التراجعي" كي لا يبدو كالهزيمة فالولايات المتحدة عملاق صناعي ومركز رئيسي من مراكز المال ومركز سياسي مهم ولكن العطب تسلل لهذا المركز لسببين رئيسيين:

الأول: وهو موضوعي (Objective): ويتمثل ببروز متروبولات جديدة ومراكز صناعية جديدة صديقة (كالاتحاد الأوربي واليابان) وغير صديقة كالصين وروسيا وهذه تمارس لعبة التوسع وستقضم ما كان في سلة الولايات المتحدة.

الثاني وهو ذاتي (Objective): ويتمثل بأن التكاثف في مركز رأس المال في الداخل ألهب التناقضات الداخلية في الولايات المتحدة بين قوى الاحتكار بلغت درجة ملحوظة في ولاية الرئيس ترامب الذي برز كممثل للقوى اليمينية المتطرفة مع ظهور ملامح تشبه الدولة الفاشية في استخدام مفرط للقوة ضد الفعاليات الشعبية وضد الأقليات. وخارجيا مارست التهديد والابتزاز وبالغت في سياسة فرض العقوبات السياسية والاقتصادية على نحو غير مسبوق وإرهاق الحلفاء والأصدقاء بطلبات سياسية ومالية مرهقة وتضعهم بين خيارات حادة وصعبة. الأمر الذي أفقد النزاهة في الموقف القيادي الأمريكي وهذه السياسة مورست في حتى في عهد الرئيس الديمقراطي أوباما وإن على نحو مخفف. هل بوسع السياسي أن يتنبأ بالمقبلات من الأحداث ...؟

أقول بنسبة كبيرة نعم .. لأن أفكار السياسي هي خلطة بين التاريخ كعلم وعلوم الجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والقانون وبقدر إلمامه ومتابعاته لجوهر الأحداث وتحليل نتائجها وبمرور الوقت (سنوات) سيحوز على هذه القدرة. وبطبيعة الحال تختلف من شخص لآخر بدرجة إخلاصه للعلم وابتعاده عن أحكام الهوى وعمق إبحاره فيما يؤدي لمعرفة واسعة بالأحداث ومسبباتها.

تعليقات

أحدث أقدم