التعبيرات الأيديولوجية للنضال المعادي للاستعمار

مشاهدات

 


بروفسور د . غيرهارد هيب : Dr.Gerhard Hipp

ترجمة : د . ضرغام الدباغ : Dr. Dergham Aldabak

أود أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى قراءة هذا الفصل بعناية وانتباه شديدين فهو ينطوي (بتقديري) على تحليل دقيق وعميق لأبرز التيارات والاتجاهات الفكرية والثقافية والحضارية في الوطن العربي بصرف النظر عن اتفاقنا مع هذه الآراء أو اختلافنا . والكاتب د . هيب هو احد أهم العلماء في أكاديمية العلوم الألمانية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية)

المترجم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن الانتعاش في النضال التحرري الوطني للشعوب العربية والذي وجد استلهاماً من ثورة أكتوبر/ 1917 وجد التعبير عنه لصورة واضحة وجلية في الصراعات الأيديولوجية المحتدمة في الأقطار العربية في تلك المرحلة حيث كانت الجبهات الإيديولوجية قائمة على الأسس الموضوعية والذاتية لوجود وشروط نضال الحركة الوطنية الناهضة. وبصفة خاصة في الهيكلية الاجتماعية المتقادمة والتي كانت بعيدة عن التطور وهكذا تتفاعل الآن. وما يستحق الملاحظة احتدام النضال المعادي للاستعمار وأيضا نبرة الخطاب الوطني للطبقات والفئات المختلفة على شكل تيارات إيديولوجية معينة في عملية استقطاب متزايدة، لتصبح رؤية الصراع الأيديولوجي سهلة في المواجهات المنتشرة بصفة واسعة .

 

هذه العملية جرت بصفة خاصة في البلدان التي لها علاقة بالتشكل (التكون) التدريجي لعناصر العلاقات الرأسمالية وفي ذات الوقت أيضا كانت هناك التناقضات بين مفاهيم مختلف الطبقات وفئات المجتمع على كافة الأصعدة والتي بدأت تتعمق وكان هذا يعني من جهة بأن النضال الذي تقوده الطبقات البورجوازية للجماهير العربية من أجل الاستقلال الوطني قد وجد شكله الإيديولوجي المعبر والثابت . ومن جهة أخرى كان ذلك انعكاس ديالكتيكي للتأثيرات المتبادلة بين الوطني والاجتماعي في تركيبات النضال الأيدلوجي للتغير في أشكالها ومستوياتها وليس هناك ثمة شك بأن هذا التطور أيضا وبناء على تلك الحتمية الموضوعية والتي عبر عنها لينين بقوله: " كلما كان النهوض الجماهيري العفوي قوياً كلما أصبحت الحركة عريضة وواسعة وسريعة أيضا وليس لسرعتها مثيل وتنمو الحاجة إلى الوعي ". وكلما " انتشرت واتسعت الحركة الشعبية كلما اتضحت أكثر الطبيعة الحقيقية لمختلف الطبقات".

 

تعرضت هذه الاتجاهات في الأقطار العربية للقمع سواء في تشكلها أو في التطور النظري والتوسع جوهرياً في أربعة تيارات مختلفة من حيث المحتوى والشكل التي تعبر عن مصالح وأهداف مختلف الطبقات الاجتماعية . كان البعض منها قد تكون في المراحل المبكرة للحركة الوطنية. وكان الأمر يدور بصفة خاصة عما يسمى بحركة تحديث الإسلام وكذلك عن القومية العربية التي كانت على صلة وثيقة مع نشأة علاقات الإنتاج الرأسمالية في الشرق الأوسط وكذلك تنوير البورجوازية المبكرة التي كانت قد نهضت في النصف الثاني للقرن التاسع عشر . وتلك الحركة التي مثلت بصفة عامة أساس القاعدة الأيديولوجية للبورجوازية العربية والأخرى التي وإن لم تكن معروفة أو ملفتة للنظر حتى ذلك الوقت، كحركة اشتراكية للبورجوازية الصغيرة .

 

وقد بدت الظاهرة الجديدة للمرة الأولى في أقطار الشرق العربي في نهاية القرن التاسع عشر . وكذلك في مصر من خلال تأسيس أحزاب شيوعية في الأقطار العربية وتأثير الأفكار الماركسية اللينينية التي كانت قد اتسعت بصورة كبيرة . وتحت ظل شروط وظروف صعبة كان الشيوعيون العرب يمثلون مصالح البروليتاريا ووقفوا في الصفوف الأمامية للنضال من أجل التحرر الوطني والاجتماعي وقد سعوا إلى ترجمة التعاليم اللينينية والدروس الشيوعية الحقيقية إلى لغة شعبهم .

 

وكانت المسألة الرئيسية في هذه التيارات الإيديولوجية، الصراعات الروحانية في المرحلة الجديدة لنضال الشعوب العربية المعادي للاستعمار . إذ كانت العلاقات المميزة لمرحلة التحرر العربية هذه قد تمثلت ابتداء في كفاح جميع الطبقات والفئات الاجتماعية تقريباً من أجل الاستقلال بقيادة القوى البورجوازية . وقد ظهرت اتجاهات التصادم ضد الإقطاع وضد الاستعمار في مفاهيم هذه الأيديولوجيات موضوعياً كمركبات جوهرية في تعارض الأفكار في تلك المرحلة .

 

وكانت في ذات الوقت (وقد جعلت الفعاليات السياسية الأيديولوجية للشيوعيين العرب من ذلك أكثر وضوحاً وكذلك بعض وجهات النظر للحركات الاشتراكية للبورجوازية الصغيرة) قد ابتدأت مركبات معادية للرأسمالية تتشكل أيضا في حركة التحرر . وهذه الظواهر بالذات جعلت من الممكن رؤية أو أدراك أي أهمية تكمن في فحص التعبيرات الأيديولوجية سواء في طبيعتها أو في مهامها وكذلك على أصعدة النضال الأيديولوجي في هذه المرحلة في أنها لا تمنح فقط إيضاحات ومهمة حول حالة الإدراك في حركة التحرر الوطنية والقومية ولكنها تتوسط (دور الوساطة ـ المترجم) إلى معارف أخرى مهمة أيضا لا بد منها لتفهم الصراعات الروحية التي تدور الآن في الأقطار العربية.

لذلك، وفي الصفحات التالية سنقدم وصفاً موجزاً لبعض وجوه النضال الأيديولوجي لتلك المرحلة ومن الطبيعي أن هذه الظواهر ليست متوفرة في جميع الأقطار العربية وأنه لمن الملاحظ ولأسباب تكنيكية عملية تستوجب تصنيف الظواهر التي ستعرض هنا التيارات غير البروليتارية أو التي لا ينبغي أن تضلل على أنها كذلك وعزلها عن بعضها وعن سائر التطورات الاجتماعية في الأقطار العربية بل وأكثر من ذلك، الإحاطة بالتناقضات النظرية والسياسية ونبذه عن التعقيدات وتعدد وجوه النضال الأيديولوجي والتي جرت في حالات كثيرة في السابق كما اليوم في بعض الأقطار العربية تحت ظل ظروف وشروط جديدة .

 

أولاً : الإسلام والنضال المعادي للاستعمار :

 

إذا أردنا بحث دور ومهمة الإسلام كوسط أشكالي رئيسي فنحن لسنا بحاجة إلى الإسهاب في أسباب ذلك . إن تاريخ العرب يشير إلى أمثلة لها أهمية عظيمة للدين الإسلامي في كافة مجالات وفروع الحياة الاجتماعية وفي أفكار البلدان العربية ضد حملات الغزو الأجنبية والمضطهدين كما تطرح لنا على سبيل المثال بأن (العرب) خاضوا تحت راية الإسلام وتحت شعار الجهاد النضال ضد المستعمرين المحتلين البرتغاليين وتمثل كذلك في نضال الوهابيين ضد الطغيان العثماني وفي حركة انتفاضة المهديين ضد البريطانيين والسنوسيين ضد الاستعماريين الإيطاليين وهي أمثلة لا يمكن تجاهلها.

 

هذه الأمثلة وغيرها كثيرة تؤكد وتثبت بصورة مؤكدة الحقيقة العلمية التي توصل لها ف. أنجلز بأن الرؤية الدينية للمسلمين " لها تأثيراتها الفعالة على مسيرة النضال التاريخ . وفي حالات كثيرة يكون لها شكلها الغالب" وهي تثبت في نفس الوقت أن الإسلام لم يكن قط نظاماً أيديولوجياً متجانساً بل أكثر من ذلك فكما ويشير لنا التاريخ بأن قوى اجتماعية مختلفة بحثت حاولت تبرير مساعيها ووجدتها من أتباع الحلقات الإسلامية الأولى فيما كان احتجاجهم السياسي والاجتماعي ضد سيادة النظام في العهود الإسلامية الأولى أو عبرت عن نفسها بانتفاضات الفلاحين المضطهدين والحرفيين أو في انتفاضات مجاميع عرقية ضد تسلط الإقطاع الإسلامي والتي كان أكثرها تحت راية شعبية جماهيرية وكلها تظهر سواء كان المستغلون أو المستغلين من الديانة الإسلامية هم في خدمة مصالحهم الأصيلة وهي مفهومة على هذا النحو .

 

وكلتا الرؤيتين وهما أيضاً عند تقرير دور ومهمة الإسلام في نضال الشعوب العربية المعادي للاستعمار . وفي هذه المرحلة من النضال الوطني التحرري فقد أمتلك الدين الإسلامي كما كان في السابق النمط الشعبي والعقيدة ذات الأهمية الحاسمة في نطاق المصالح للقوى الاجتماعية المختلفة بدون أن تستطيع في هذا المجال سواء في الهيئة أو في طبيعة المهام العمل التي كانت عليه حركة المذاهب أو التنظيمات الإسلامية التي كانت قد برزت إلى الوجود في أواسط القرن التاسع عشر وهذه لها أهمية خاصة بالنسبة إلى الإشكالية التي نبحثها .

 

وتحت شروط نشوء وتشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية في معظم الأقطار العربية التي كانت متأثرة بمقاييس قوية وبشدة بالرأسمالية الأوربية وقد أصابها التشوه من جراء هذا التأثر بالإضافة إلى تفاعلات التوسع الاستعماري في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وكذلك من خلال صلات وثيقة مع حركة التنوير العربية البورجوازية التي بدأت في مصر وفي المغرب العربي بدأت اتجاهات أيديولوجية جديدة بالتشكل والتكون : عملية التحديث الإسلامية .

 

وفي هذا التيار الذي يتشابه في بعض الوجوه مع حركة الإصلاح المسيحية في أوربا وقد عوملت كما جرى التنويه من أجل أن تكون الأساس الإيديولوجي لكل ما صدر عن الإسلام في مرحلة الازدهار والسيادة والتي تعد تاريخياً قوى تقدمية من البورجوازية العربية الفتية ومن خلاله خلقت " دينها الخاص الذي يناسبها". إسلامياً طور علاقات إنتاج جديدة تتلاءم مع المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للطبقات الجديدة وفي نفس الوقت عبر المحدثون الإسلاميون الذين كان بروزهم لا ينفصل عن اسم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بوصفهما من أهم إشكال التعبير الأيديولوجية للحركة التحررية العربية المعادية للاستعمار وقد أصبحا أحد معالم التقاليد التقدمية وتشبه فعالياتهما ما قام به (مارتن لوثر) وقد تأثر بذلك علماء دين وثوريون على حد السواء في مشاركاتهم الحماسية في أول نهوض وطني للشعب المصري بقيادة أحمد عرابي ضد الاستعمار الذي مثل اتجاه التحديث في الإسلام.

والمحدثون الإسلاميون في القرن العشرين بذلوا أيضاً جهودهم في تعميق العملية التي كان يقودها محمد عبده في فتح باب الاجتهاد وكان ذلك يعني فتح الأبواب أمام تفسير واسع لمصادر الدين الإسلامي من أجل التغلب على التقاليد وأبعادها. وبذلك قاموا بدور حاسم بوضع نمط من التفكير الجديد في الإسلام الذي كان يشوبه الجمود وتحطيم جمود إيديولوجية إقطاعية لم تتغير منذ القرون الوسطى وجعلها ملائمة للعصر، وجعلها كعامل تعبئة أيضا في خدمة النضال الوطني التحرري .

 

هكذا إذن كانت توجهات حركة التحديث الإسلامي في القرن العشرين والتي يعد محمد رشيد رضا من ممثليها البارزين والذي أسس في مصر السلفية الحديثة وأيضاً عبد الحميد باديس مؤسس رابطة علماء الجزائر الذي له آراء محترمة ومقبولة حتى الآن ومن مراكش عبدة شعيب الدوكالي . وكانت مهمتهم تكمن في تحرير الإسلام من الخرافات والجهل والتعصب ووقوف الإسلام كعصبة واحدة موحدة بل وكسلاح في النضال التحرري الوطني والقومي من خلال أبراز التقاليد التقدمية التاريخية وليس أخيرا التأكيد علة اللغة العربية كهوية مميزة للأمة العربية التي أصابها الاهتزاز من خلال القوى الغربية وإعادة الوعي والثقة إلى الشعوب العربية.

 

ولكن هذه المساعي لتحديث الدروس ومحتوى التعليم وانعكاساتها لمركز لحركة التحرر الوطني لاقت الفشل وبشكل ملموس في محاولات الإصلاح حيال المراكز الدينية الكلاسيكية الواسعة النفوذ في القاهرة (الأزهر) والزيتونة(تونس) والقرويين(فاس / المغرب) ويبدو بوضوح أكبر في الأزهر . وعندما يتذكر المرء الدور الهام والفعال للنشاطات السياسية للشخصيات الروحية والطلبة في الثورة المصرية عام 1919 وذلك يطرح نفسه أيضا في نضال المحدثين في شمال أفريقيا ضد الرجعية والغموض والتعصب في بعض الاتجاهات الإسلامية والتي كانت تقف إلى جانب الاستعمار الفرنسي في قمعه لحركة التحرر الوطنية . وأخيراً الجهود التي بذلت في مصر بصفة خاصة للتغلب في مجال قواعد التعامل والحقوق فوجد انعكاسه في مقترحات إصلاح ديمقراطية ـ بورجوازية من شأنها إصلاح مكانة المرأة المسلمة واعتبارها في الحياة الاجتماعية وذلك بصورة مترابطة مع أعمال قاسم أمين لا سيما في الحركة النسوية المصرية المهمة التي كانت ملتفة حول هدى شعراوي .

 

وهذه الأمثلة القليلة توضح الدور المهم الذي لعبته حركة التحديث الإسلامية في فعاليات وتعبئة النضال التحرري الوطني للشعوب العربية . ومن بين هذه الفعاليات برز قادة لعبوا أدوار تاريخية مهمة في حركة التحرر العربية مثل : علال الفاسي شكيب أرسلان الثعالبي فرحات عباس لطفي السيد سعد زغلول وآخرون كثيرون . وفي وصف وتميز ظاهرة حركة التحديث الإسلامية لا ينبغي تجاهل التناقضات النظرية الداخلية وكذلك السياسية العملية تلك التناقضات التي (بدون شك هي نتيجة لحاجات ومستلزمات اجتماعية) التي أدت مرغمة إلى أن تلعب دوراً تقدمياً لا جدال فيه في النضال المعادي للاستعمار وجعلت من أي أمر آخر حيال ذلك نسبياً . وقد كان المحدثون الإسلاميون الطلائعيون جمال الدين الأفغاني وأبرزهم : جمال الدين الأفغاني . محمد عبده قد برهنوا في أعمالهم الدينية أو السياسية على أن فاعلية التناقضات هذه على أساس النظرية البورجوازية وهكذا فإن أعمال الأفغاني هي أيضا تعد في خدمة الحركة القومية العربية بدون شك. وفي تأسيس فكرة الجامعة الإسلامية (التي كانت أساساً توجهات معادية للاستعمار) والتي أصبحت فيما بعد سلاحاً بيد آخر سلاطين العثمانيين وقادة تركيا الفتاة فتحولت إلى سلاح خطر ضد الحركة القومية العربية وحتى اليوم تعد هذه ذخيرة وترسانة روحية وسياسية بيد الرجعية الإسلامية . وعلى المرء أن لا يتجاهل بأن الأفغاني كان يوجه نضاله ضد الحركة الاجتماعية للبورجوازية الصغيرة في الأقطار العربية كما بادر إلى استخدام مصطلح (الاشتراكية الإسلامية) ووضع أسسها النظرية وما زال حتى اليوم خصوم التقدم الاجتماعي يستخدمونها كقاعدة أيديولوجية .

 

وختاماً فإن الحقيقة التي لا يمكن الصمت عنها هي أن محمد عبده لم يكن مؤيداً للنضال الثوري للجماهير أو للحركة الوطنية المصرية في تعبئتها وراء أحمد عرابي ومصطفى كامل كما أنه كان صديقاً مقرباً من القنصل البريطاني العام في مصر اللورد كرومر .

 

ومن الواضح الجلي هو حدود حركة التحديث الإسلامية التي استخدمت كعنصر تعبئة في النضال المعادي للاستعمار مقابل فعاليات محمد رشيد رضا والتي بواسطتها تطور هذا التيار الأيديولوجي إلى ذروته وبنفس الوقت إلى مرحلة تحجره والانحدار إلى تعصب جديد وبه ومن خلاله كان أبرز وأهم تلاميذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد مضوا في عملية يمكن للمرء أن يقارنها بالظاهرة التي حدثت قبل بضعة قرون عندما كان اللاهوتي الأشعري والغزالي والمعتزلة والصوفية قد وضعت في قائمة الأفكار المحافظة وبذلك فإن هذه التيارات غير المتعصبة سلبت مئات من السنوات قوتها الثورية .

وإذا جاز لنا اعتبار الغزالي مؤسساً لمدرسة التعصب الإقطاعية في العصور الوسطى فإننا سنعتبر محمد رشيد رضا "غزالي من نوع جديد" وظاهرة تاريخية تقدمية وعنصراً ثورياً في الأفكار المعادية للاستعمار والتعامل في الحياة مع الإسلام وتجميد المدرسة المتعصبة . وهو الذي خلق " الاقتصاد الأخلاقي الإسلامي " وصاغ منها تلك الاشتراكية الديماغوجية عن طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية وعن أمكانية توافق طبقي سلمي من خلال الضرائب الاجتماعية والزكاة التي تظهر اليوم في الأقطار العربية تعبر في الأساس عن معتقدات / الأيديولوجيات البورجوازية المحافظة وصغار البورجوازيين وكحجج ضد الأفكار الاشتراكية والحركات التقدمية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط العاملة في الميدان ونعد سعي العناصر الرأسمالية وكأنها مسألة مبررة واستحقاقات دينية .

 

ومرة أخرى تجلت شدة هذه الاتجاهات المحافظة الجديدة لرضا في مواقفه حيال قضية على عبد الرازق . ففي عام 1925 كان علي عبد الرازق وهو الأخ الوحيد لشيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق قد تخرج من الأزهر وبتأثير شديد لسياسة فصل الدين عن الدولة في تركيا الحديثة التي كان مصطفى كمال أتاتورك يمارسها وقد أثار نشره لكتابه "الإسلام وأصول الحكم" الاضطراب في أوساط الرجعية الدينية وبالصلة والتواصل مع أفضل التقاليد في استفهام والاستيضاح العربي طالب علي عبد الرازق بتعميق متواصل لعملية التحديث الإسلامية والذي استطاع من خلال دراسة قام بها في جامعة أكسفورد أن يكون على تماس مع أفكار هوبس Hobbs ولوقا Lockeالتي تضم أفكاراً عن فصل الدين عن الدولة وبحس رأيه فإن مؤسسة الخلافة تعني ألحاق التهمة بالدين الإسلامي والمسلمين وما يمارس باسم الإسلام من طغيان ثيوقراطي يتناقض مع النوايا الحقيقية للنبي محمد وتعاليمه. وقد كتب قائلاً " الدين الإسلامي الذي يدين به المسلمون لا علاقة له بأي خليفة وكذلك بالسلطة والسلطان وكذلك مع الاجتهاد وأن الخلافة لا تعد من المؤسسات الدينية وكذلك وظيفة القاضي . والوظائف الحكومية الأخرى والمواقع في الدولة المركزية" وقد أكد مفكر عقلاني مسؤوليات التنوير العربي بأن " ليس في الدين الإسلامي ما يمنع من التنافس مع الأمم الأخرى في المجالات الاجتماعية والعلمية وفي إلغاء أي نظام قديم يذلهم ويخضعهم ووضع أسس الدولة والنظام الحكومي وفق أفضل وأحدث ما توصل إليه الفهم البشري وما أشارت إليه تجارب الشعوب كأفضل ما يمكن من مبادئ مهام الدولة والعمل بها".

 

وعملياً فإنه بذلك كان قد وجه التحية إلي القرار الذي اتخذه الاجتماع الوطني الكبير(البرلمان) في الحل الرسمي للخلافة وفي نفس الوقت وقف ضد الانشقاق في الحركة المعادية للاستعمار وعززت من جهوده فيما يخص الخلافة. وكان يقف هذا الموقف محمد شوكت علي محمد رشيد رضا ورجال الدين المشهورون الذين ينتمون إلى الأزهر والذين كانوا قد ساهموا في مؤتمر الخلافة في أيار/ مايو ـ 1926 في القاهرة وفي تموز/ يوليوـ 1926 في مكة وكذلك في إيجاد مؤسسات إسلامية دائمية (مؤتمر العالم الإسلامي) الذي ما زال يحاول حتى اليوم يسعى لخلق الإمبراطورية الإسلامية العظمى .

 

وهكذا لم يكن مثيراً للدهشة بأن مجلة رضا(المنار) ذات النفوذ والتي كانت تدعم (وكذلك كان البلاط) حزب الاتحاد. وقاد أصحابها معارضة شديدة ضد على عبد الرازق الذي كان ومن خلال إدانات نشرتها مجلة المنار لكتابه أدت إلى منع أول كتاب من قبل علماء الأزهر (كما أدين هو شخصياً وصدر تحريم تقليده أي وظيفة عامة) وبذلك كان رضا من اشد خصوم علي عبد الرازق وكذلك مفتي مصر محمد بخيت . ووصفوا هذا المسلم الليبرالي بأنه عدو للإسلام وهو الذي أشتهر بسبب مقالته" الدين . الإلحاد . الاشتراكية" و " الاشتراكية البلشفية الدين" التي سببت تعاطفاً مع الاشتراكية . وكان رضا متفقاً مع قرار الأزهر بقطع الصلة مع "مثير المشاكل" علي عبد الرازق ووصف مقاصده بأنها تنطوي على الإلحاد وتتهمه الرجعية بديماغوجية " ببلشفة الإسلام". هذه التوجهات من محمد رشيد رضا الذي لم يخف إعجابه بالنظام الوهابي الإقطاعي السعودي كما بلغت التوجهات المحافظة الجديدة أوجها بتأسيس جمعية الأخوان المسلمين.

 

تأسست جمعية الأخوان المسلمين في سنوات 1928/ 1929 في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت مؤثرة على الأقطار العربية أيضا كما في مصر . ففي الوقت الذي كانت فيه أقسام من البورجوازية المحلية تبدي الاستعداد من أجل التفاهم والوفاق مع الإمبريالية البريطانية عن طريق أحزابها وهنا فإن البورجوازية الوطنية وفي حالات كثيرة كادت أن تتنازل عن قوتها الثورية . كما أنها أظهرت فيما يخص قضايا الملكية المختلفة تأثراً بأيديولوجية الأخوان المسلمين موقفاً متعصباً دينياً وقومياً كما أنهم عكسوا احتجاجا عفوياً وآمالاً بالاستقلال وأمنيات غير واضحة المعالم في ظروف الاضطهاد الاستعماري من خلال المضطهدين من القوى المحلية الذين كانوا يلحقون الأذى بالفلاحين الفقراء والحرفيين وصغار التجار والمثقفين من البورجوازية الوطنية .

وحسن البنا هو المؤسس والمرشد الأول لهذه المنظمة الدقيقة التنظيمات ذات المراتب المتدرجة. والبنا هو ابن أحد مصلحي الساعات في منطقة الدلتا المصرية وكان يعمل معلماً في مدرسة ابتدائية في الإسماعيلية. وقد مثل محمد رشيد رضا وهو من الملتزمين بالمذهب الحنبلي (الذي كان يصدر مجلته المنار وواصل إصدارها بعد عام 1949) والوهابيون المتشددون من بين الأوساط المحيطة به. وكان البنا حتى اغتياله عام 1949 القائد الديكتاتوري لهذه المنظمة الجماهيرية التي كان قد وضع لها أساسها الأيديولوجي الذي يرتكز في النهاية على القرآن واتجاهات أخرى غير محددة بدقة ولكنها متجهة بصفة أساسية إلى خلق وتأسيس دولة إسلامية عظمى على هذى الإسلام كأيمان مشترك وبذلك فأنها مواصلة واضحة لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وفي ضرورة إقامة حكم "عادل مستبد" كضمان " لبعث الشرق" ووجدت هذه نفسها في نظرية الدولة لدى البنا الذي (كما لدى محمد رشيد رضا" دولة يكون القرآن دستورها وهناك خليفة على رأس هذه الدولة.

 

وكان البنا يعتقد أن سقوط الشرق هو بسبب رجوع الناس عن التعاليم الأساسية للإسلام وطالب بالتطبيق الشامل في كافة مناحي المجتمع وكذلك الحياة الخاصة (القوانين الإسلامية ـ الشريعة) كما طالب بحل جميع الأحزاب السياسية وإلغاء كافة القوانين والأنظمة والتعليمات الليبرالية ـ البورجوازية وإحلال سيطرة صارمة لمساعي الدولة الإسلامية في السيطرة على حياة البشر وعلاقاتهم وفق تعاليم الإسلام. ولما كانت اللغة العربية هي المعبرة عن التعاليم الإسلامية الأساسية لذلك ينبغي أن يكون جزءاً أساسيا من فعاليات التعليم للدولة الإسلامية الجديدة ومرحلة التعليم لما قبل الدراسة الابتدائية ويجب أن تكون في الجوامع.

 

وبديماغوجية اجتماعية من خلال محاكاة شاملة للنموذج الفاشي لماكنة الدعاية وتحت شعار " رفع الفوارق الطبقية على قاعدة الأخوة الإسلامية" وكذلك " النضال ضد النفوذ والتأثير المادي والروحي للغرب " و " النضال ضد الفساد والنزاعات الحزبية" استطاع الأخوان المسلمون أن يحققوا وبسرعة نفوذاً وكثير من الأتباع بين جماهير الفلاحين وبين البورجوازية الصغيرة في المدن كما حاولوا أن ينالوا ويحققوا لأنفسهم مكانة بين الطبقة العاملة حيث نجحوا بتمرير بعض عناصرهم في النقابات . وفي حوالي نهاية الحرب العالمية الثانية كان عدد أعضاء الحركة قد بلغ أكثر من نصف مليون وبما يشبه الشبكة من الفروع لحركة الأخوان المسلمين التي كانت قد انتشرت في معظم أقطار المشرق العربي والسودان . ومن خلال تشكيل " الأخوات المسلمات" في مسعى للحصول على أتباع بين النساء وأيضاً من خلال وحدات " الكشافة " لنيل نفوذ بين أوساط الشبيبة. كما أسس الأخوان المسلمين المزارع ومشاريع صناعية وأعمال الخدمات وبذلك كانت لديهم الوسائل المالية القوية في نضالهم السياسي. وتحت شعار منظمة الجوالة " للشباب الأكبر سناً من الكشافة" والتي تأسست فيها المنظمة العسكرية "الكتائب" ذات القوة الضاربة .

 

وليس ثمة شك بأن العداء للأجانب قد طبع بالحقد من قبل المتشددين دينياً والقوميين المتطرفين وقد ضم شيئاً من عداء الأخوان المسلمين للاستعمار . وكان الأخوان المسلمين قد أقسموا على المصحف والسيف وساهموا بفعالية في الانتفاضة العربية في فلسطين خلال أعوام 1937 ـ 1939 وكسبوا تعاطف الجماهير العربية معهم. وكان حسن البنا هو القائد لمثل هذه الاتجاهات المعادية للاستعمار وبحسب المعطيات فهو ينحدر من منطقة الإسماعيلية (حيث مركز القيادة البريطانية في قطاع السويس) وهناك شاهد بنفسه الاستعمار وشحن بالكراهية ضد المستعمرين وسلوكهم التسلطي القائم على البطش .

 

ولكن قادة الأخوان أظهروا الانتهازية حيث كانوا على استعداد لسياسات توفيقية . فقد ابدوا المبالغة في صراعهم المرير مع الوفد ثم في تعاونهم مع الفاشية(الألمان) أو مع السلطات البريطانية بدرجة متساوية ألحقت هذه السياسة الأضرار بحركة التحرر العربية وكذلك في موجة من الإرهاب التي تنامت منذ الأربعينات لواسطة أعمال وفعاليات المنظمات العسكرية للإخوان المسلمين ضد الخصوم من الداخل والخارج وفي العداء المعلن ضد الشيوعية مما أضعف جبهة النضال ضد الاستعمار . ومثل هذه الفعاليات كانت مضرة ومثلها مواقفهم في الثورة المضادة ضد النظام الثوري الديمقراطي في مصر في أعوام الستينات .

 

وتشير هذه الملاحظات إلى كون الإسلام قوة تعبئة لا جدال فيها ولكن أيضاً إلى محدوديته في النضال المعادي للاستعمار . وحيث كان الاتجاه الإسلامي يطرح : بأنه وفقط بشروط وظروف العمل الإسلامي تكون الحركة المعادية للاستعمار والشعور العربية ممكنة وتوفر للبورجوازية المحلية قاعدتها الفعالة .


تعليقات

أحدث أقدم