باصات بغداد الحمراوات

مشاهدات

 



علي السوداني

أمّا‭ ‬صاحبي‭ ‬البعيد‭ ‬الشاعر‭ ‬خير‭ ‬الله‭ ‬سعيد‭ ‬،‭ ‬فلقد‭ ‬ضربه‭ ‬الهوى‭ ‬والحنين‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬قلبه‭ ‬ليلةَ‭ ‬قرأ‭ ‬منبوشنا‭ ‬الفيسبوكي‭ ‬وشاف‭ ‬صورة‭ ‬الباص‭ ‬الأحمر‭ ‬ذا‭ ‬الطابقين‭ ‬الرائعين‭ ‬،‭ ‬وعلى‭ ‬بركة‭ ‬الذاكرة‭ ‬سأزيد‭ ‬فوق‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬وأعجب‭ ‬الصحب‭ ‬البغداديين‭ ‬من‭ ‬الصوبين‭ ‬وما‭ ‬حولها‭ ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬حلقتين‭ ‬مستعجلتين‭ ‬،‭ ‬واحدة‭ ‬عن‭ ‬سنواتي‭ ‬برصافتها‭ ‬والثانية‭ ‬عن‭ ‬سنواتي‭ ‬بكرخها‭ .‬

سأبدأ‭ ‬من‭ ‬فصل‭ ‬الطفولة‭ ‬وفورة‭ ‬الشباب‭ ‬وأذهب‭ ‬إلى‭ ‬أرقام‭ ‬باصات‭ ‬مصلحة‭ ‬نقل‭ ‬الركاب‭ ‬التي‭ ‬ركبتها‭ ‬وربما‭ ‬كتبت‭ ‬اسمي‭ ‬على‭ ‬متكأ‭ ‬كرسي‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬السائق‭ ‬الحازم‭ ‬بوساطة‭ ‬المرآة‭ ‬الكاشفة‭ ‬،‭ ‬وكنت‭ ‬بمفتتح‭ ‬الستينيات‭ ‬وكل‭ ‬السبعينيات‭ ‬البديعة‭ ‬من‭ ‬سكنة‭ ‬رصافة‭ ‬بغداد‭ ‬العزيزة‭ ‬بواحد‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬جيوب‭ ‬الفقر‭ ‬العملاقة‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬مدينة‭ ‬الثورة‭ ‬وأول‭ ‬مربعاتها‭ ‬الملاصقة‭ ‬لجميلة‭ ‬الصناعية‭ ‬والذي‭ ‬يحمل‭ ‬مسمى‭ ‬قطاع‭ ‬ستين‭ ‬الذي‭ ‬تلفظه‭ ‬الناس‭ ‬وقوفاً‭ ‬على‭ ‬حرف‭ ‬الطاء‭ ‬ربع‭ ‬ساعة‭ . ‬

كان‭ ‬لدى‭ ‬أبي‭ ‬وأخي‭ ‬الأكبر‭ ‬دكان‭ ‬بمطلع‭ ‬شارع‭ ‬السعدون‭ ‬وتحت‭ ‬ظل‭ ‬عمارة‭ ‬مرجان‭ ‬وبركة‭ ‬مطعم‭ ‬تاجران‭ ‬وأذان‭ ‬جامع‭ ‬الأورفلي‭ ‬أسمه‭ ‬ألبان‭ ‬وشنينة‭ ‬فوزي‭ ‬،‭ ‬وكانت‭ ‬كاسات‭ ‬وطاسات‭ ‬ونجاين‭ ‬اللبن‭ ‬التي‭ ‬تخصصنا‭ ‬بصنعها‭ ‬هي‭ ‬الأقرب‭ ‬الى‭ ‬طعم‭ ‬القيمر‭ ‬وصفرته‭ ‬المحببة‭ ‬،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬تناولته‭ ‬صحبة‭ ‬كيكة‭ ‬سادة‭ ‬مشطورة‭ ‬الى‭ ‬أربع‭ ‬فلعات‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬الرزق‭ ‬وفيراً‭ ‬ومبهجاً‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬صداع‭ ‬متأخر‭ ‬كانت‭ ‬تنتجه‭ ‬المطارق‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬استعملها‭ ‬المقاول‭ ‬سامي‭ ‬علوان‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬نحته‭ ‬وبنائه‭ ‬نفق‭ ‬ساحة‭ ‬التحرير‭ ‬المشهور‭ ‬والمشهورة‭ .‬a

كنا‭ ‬نغلق‭ ‬الدكان‭ ‬قبل‭ ‬بلوغ‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬ليلاً‭ ‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نسقي‭ ‬العطاشى‭ ‬الخارجين‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬السينما‭ ‬بشارع‭ ‬السعدون‭ ‬،‭ ‬والذين‭ ‬كانوا‭ ‬يفضلون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميعاد‭ ‬شربت‭ ‬الرمان‭ ‬والقليل‭ ‬منهم‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬شنينة‭ ‬صانعنا‭ ‬سبتي‭ ‬الكردي‭ ‬دواء‭ ‬ليل‭ ‬وطمأنينة‭ ‬ونوماً‭ ‬عزيزاً‭ ‬وأحلاماً‭ ‬لذيذة‭ ‬مع‭ ‬شادية‭ ‬ونادية‭ ‬لطفي‭ ‬وصوفيا‭ ‬لورين‭ ‬وكاترين‭ ‬دينوف‭ ‬،‭ ‬وسيء‭ ‬الحظ‭ ‬منهم‭ ‬قد‭ ‬يأتيه‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬القلق‭ ‬شامي‭ ‬كابور‭ ‬باكياً‭ ‬لاطماً‭ ‬،‭ ‬أو‭ ‬بود‭ ‬سبنسر‭ ‬ساكراً‭ ‬هاجما‭ ‬هو‭ ‬وشقيقه‭ ‬ترانس‭ ‬هيل‭ ‬على‭ ‬حانة‭ !‬

في‭ ‬رحلة‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬المنزل‭ ‬كنا‭ ‬نستقل‭ ‬الباص‭ ‬الشائل‭ ‬الرقم‭ ‬ستاً‭ ‬وأربعين‭ ‬،‭ ‬وموقفه‭ ‬كان‭ ‬لصق‭ ‬حديقة‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬سينمات‭ ‬ميامي‭ ‬والحمراء‭ ‬وغرناطة‭ ‬ودكاكين‭ ‬ابن‭ ‬عمتي‭ ‬خميسة‭ ‬المسرحي‭ ‬صبحي‭ ‬حسن‭ ‬حسين‭ ‬،‭ ‬الذي‭ ‬طلّق‭ ‬المسرح‭ ‬ويوسف‭ ‬العاني‭ ‬ووجيه‭ ‬عبد‭ ‬الغني‭ ‬وزينب‭ ‬وصحبة‭ ‬الصعاليك‭ ‬الأفذاذ‭ ‬،‭ ‬وخاض‭ ‬بأعمال‭ ‬الطعام‭ ‬والشرابت‭ ‬والعصائر‭ ‬والكرزات‭ ‬،‭ ‬فأنتج‭ ‬من‭ ‬مشهورات‭ ‬المحلات‭ ‬البغدادية‭ ‬المدهشة‭ ‬،‭ ‬كبة‭ ‬الكبة‭ ‬وشربت‭ ‬سمير‭ ‬وكص‭ ‬عادل‭ .‬

يتحرك‭ ‬الباص‭ ‬ثقيلاً‭ ‬مكتظاً‭ ‬بالكادحين‭ ‬وبالسكارى‭ ‬المسالمين‭ ‬الذين‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يفتعل‭ ‬إغفاءة‭ ‬مريبة‭ ‬تجنباً‭ ‬لصوت‭ ‬الجابي‭ ‬ونغزة‭ ‬دفع‭ ‬بطاقة‭ ‬ضئيلة‭ ‬سعرها‭ ‬عشرون‭ ‬فلساً‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬ظني‭ !‬

إن‭ ‬كنت‭ ‬عائداً‭ ‬وحدي‭ ‬فسوف‭ ‬أفضّل‭ ‬الهبوط‭ ‬بساحة‭ ‬خمسة‭ ‬وخمسين‭ ‬المعروفة‭ ‬بمبتدأ‭ ‬الثورة‭ ‬،‭ ‬ممتعاً‭ ‬عيني‭ ‬وأذني‭ ‬بمنظر‭ ‬المقاهي‭ ‬ولواعيب‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬ومطعم‭ ‬الباجة‭ ‬الكبير‭ ‬وأبخرة‭ ‬القدورة‭ ‬الكبيرة‭ ‬،‭ ‬واستعدادات‭ ‬بعض‭ ‬طالبي‭ ‬الرزق‭ ‬الحلال‭ ‬لصباح‭ ‬الساحة‭ ‬ومسطر‭ ‬العمال‭ ‬الشاسع‭ ‬،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬صحبة‭ ‬أبي‭ ‬وأخي‭ ‬فالنزول‭ ‬سيكون‭ ‬بباب‭ ‬خزان‭ ‬الماء‭ ‬الضخم‭ ‬العالي‭ ‬،‭ ‬ومنه‭ ‬نشق‭ ‬الدرب‭ ‬مروراً‭ ‬بقطاعي‭ ‬سبعة‭ ‬وخمسين‭ ‬وربما‭ ‬ستة‭ ‬وخمسين‭ ‬أو‭ ‬ثمانية‭ ‬وخمسين‭ ‬،‭ ‬وعلى‭ ‬يميننا‭ ‬سيكون‭ ‬جامع‭ ‬كامل‭ ‬الرضوي‭ ‬وشارعه‭ ‬المرشوش‭ ‬بالنفط‭ ‬الأسود‭ ‬والقطط‭ ‬،‭ ‬وشمالنا‭ ‬معطراً‭ ‬برائحة‭ ‬الفواكه‭ ‬والخضر‭ ‬التي‭ ‬تجيء‭ ‬مسافرة‭ ‬من‭ ‬علوة‭ ‬جميلة‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الأعطار‭ ‬الرحيمة‭ ‬الحلوة‭ ‬لا‭ ‬تمنع‭ ‬ما‭ ‬تصدره‭ ‬سواقي‭ ‬المياه‭ ‬الآسنة‭ ‬التي‭ ‬تتلوى‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬حتى‭ ‬وصولنا‭ ‬الدار‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬رقمها‭ ‬أربعة‭ ‬على‭ ‬ستة‭ ‬على‭ ‬ستين‭ ‬،‭ ‬ومن‭ ‬حوشها‭ ‬درج‭ ‬اسمنتي‭ ‬جميل‭ ‬يصعد‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬الدار‭ ‬الآمنة‭ ‬صيفياتها‭ ‬والباردة‭ ‬أفرشتها‭ ‬وأول‭ ‬حكاياتها‭ ‬الناعسات‭ !‬

عشت‭ ‬هناك‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬سنةً‭ ‬ثم‭ ‬عبرتُ‭ ‬صحبة‭ ‬أخي‭ ‬جمعة‭ ‬نحو‭ ‬كرخها‭ ‬وجسورها‭ ‬ودجلتها‭ .‬

تعليقات

أحدث أقدم