مقامة الرضا في مقهى بغداد الفاضلة

مشاهدات

صباح الزهيري


قال الشيخ الأغر, أبو العبرات , وقد حطَّ عصاه على عتبة مقهى تبرق مصابيحه :

يا سادتي الكرام , ويا أهلَ بغداد الأعلام , لقد ظلَّت دجلتنا تجري , وقروننا تمضي , وبغدادُنا العزيزةُ تفصلُ بين المقهى الذي تزدحمُ فيه الصدورُ وتُدارُ فيه كؤوسُ الطربِ , وبين المكتبةِ التي تهجعُ فيها العقولُ وتُصانُ فيها كنوزُ الأدبِ , حتى أتت فكرةٌ غريبةٌ , وُصِفَت باللبيبةِ , أنْ يُمْزَجَ القهوةُ والكتابُ , فيغدو المكانُ مجمعاً للأفاضلِ والمثقفين , ومُستراحاً لجلساتِ الحوارِ بين العلماءِ والمتأدبين ,

ثم سِرْتُ أنا العجوزُ بضعَ خطواتٍ , أقتفي أثرَ المعارفِ في الطرقاتِ , فإذا بي أجدُ على الجانبِ الآخرِ من الشارعِ مقهىً ضخماً , تزدحمُ فيه الأجسامُ , وتضجُّ منه الأصواتُ , كأنَّه سوقٌ يومَ الحجِّ أو مجمعٌ يومَ العيدِ , ويكادُ لسانُ الشمِّ يُخبركَ برائحةِ البنِّ المحروقِ والقهوةِ المُعتَّقةِ , من على هذا البُعدِ السحيقِ , وهو مقهىً نُقِشَ عليه اسمُ : رضا علوان

فواللهِ , لقد تذكَّرتُه يومَ كان دُكَّاناً صغيراً في الكرادةِ العتيقةِ , لا يزدحمُ إلا بأهلها , ولا يضيءُ فيه إلا ماكينةُ طحنِ البنِّ الصدئةُ , التي تدورُ كدولابِ الزمنِ , وأهلُ الكرادةِ القدامى يتسابقون على بَنِّ رضا علوان , يشمُّونَهُ قبلَ أنْ يشربوهُ , ثم ارتحلَ صاحبُ البنِّ إلى حيثُ يرتاحُ الراحلون , وتغيَّرَت اللافتةُ من بنِّ رضا علوان إلى أولادِ رضا علوان , وبقيَ المكانُ كما هو, يبيعُ البنَّ مطحوناً ومجروساً , مع بعضِ الحاجياتِ المنزليةِ , وقليلٍ من المستلزماتِ البيتيةِ , لكنَّ دهرَنا هذا دهرُ انقلابٍ وتغييرٍ, فالمحلاتُ المجاورةُ تبرقُ بأضوائِها , وتتحوَّلُ إلى متاجرَ عصريةٍ , تخدعُ الأبصارَ وتُفْسِدُ الأذواقَ , ودُكَّانُ رضا علوان باقٍ على عهدهِ , لا يتغيَّرُ له حالٌ ولا يتبدَّلُ له مآلٌ , كأنه صخرةٌ في بحرِ التجديدِ . ثم التفتُّ إلى الرفاقِ وقلتُ :

إنَّ بغدادَ اليومَ , يا سادتي , ما هي إلا رواياتٌ تُروى وقصصٌ تُحكَى , فكلُّ شارعٍ فيها كتابٌ مفتوحٌ , وكلُّ مقهىً مدرسةٌ تُعلِّمُنا أنَّ الأصالةَ لا تموتُ , بل تلبسُ ثوباً جديداً , فما أجملَ أن ترى الماضي يتنفسُ في صدرِ الحاضرِ, وأن تشهدَ على دكانٍ متواضعٍ يتحولُ إلى صرحٍ شامخٍ , إنَّه لحكمةٌ بالغةٌ , ودرسٌ بليغٌ في قيمةِ البقاءِ على المبدأ , مهما علا صوتُ التغييرِ وتبرَّجَت وجوهُ الموضةِ العابرةِ . وحسبتُها في نفسي , وقلتُ :

لابدَّ أنَّ الأبناءَ قد اجتمعوا في مجلسٍ عائليٍّ , وعقدوا جلسةَ عصفِ ذهنٍ , يتساءلون :

ما العملُ بهذا الموقعِ الثمينِ , الذي لا يجلبُ لنا مالَ البنينِ؟ فبرقَتْ في ذهنِ أحدهم فكرةٌ خارجَ الصندوقِ , فقالَ :

يا إخوتي الأعزَّاءَ , لماذا نبيعُ البنَّ مطحوناً , ولا نحولُهُ إلى فنجانِ قهوةٍ سخينٍ , يرتشفُهُ الناسُ في مقهىً واسعٍ , وندخلُ بهِ سوقَ البغداديين؟ وهكذا , أيها السادةُ , أصبحَ لبغدادَ مقهىً باسمِ رضا علوان , يتَّسِعُ ويكبرُ ويتمدَّدُ , حتى فاقَ التوقُّعاتِ , وتعدَّدَتْ فروعُهُ في الأرجاءِ , فغدا واحداً من معالمِ بغدادَ الجديدةِ , وأصبحتْ قهوتُهُ تُنافسُ قهوةَ الوجهاءِ والأسيادِ . لقد كنتُ أراقبُ حركةَ الزبائنِ , بين داخلٍ وخارجٍ , فإذا بهم طبقاتٌ شتى من الناسِ, وفئاتٌ مختلفةٌ من المجتمعِ , قد ألفتهم رائحةُ البنِّ الزكيةُ والضجةُ المحببةُ , فالشابُّ الجامعيُّ يذاكرُ دروسَهُ بين ضوضاءِ الأحاديثِ , والشاعرُ المرهفُ يُنقِّحُ قصيدتَهُ على مائدةٍ من زجاجٍ , والتاجرُ الأنيقُ يعقدُ صفقاتِهِ فوقَ بخارِ القهوةِ التركيةِ , فاجتمعَ القومُ على الرضا , لا رضا العلْوانِ وحسبْ , بل رضا النفسِ عن المآلِ , ورضا العيشِ عن الحالِ , فهلْ أبلغُ من هذا اجتماعاً , يجمعُ القلوبَ والأفكارَ حولَ فنجانِ سعادةٍ ؟ فتعجَّبتُ من حكمةِ الأبناءِ , وصرختُ في الأسماعِ :

سبحانَ مَنْ يحيي العظامَ وهي رميمٌ , إنَّ دكَّاناً للبنِّ قد صارَ مقهىً عامراً , يُحيي السَّهرَ ويُطيلُ الأحاديثَ , وبغدادُ لا تموتُ وإنْ تغيرَت أسواقُها , فيا لَلَّهِ من دنيا , تبدأُ بحبَّةِ بنٍّ , وتنتهي بفنجانِ قهوةٍ , والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .

تعليقات

أحدث أقدم