مقامة الى أبو أيفانكا : في ذمّ الادارة غير الجادة وغير المسؤولة عن ثروة العراق .

مشاهدات


صباح الزهيري


قال الشيخ أبو زيد السروجي يوماً , وهو يخاطب رئيساً عظيماً من رؤساء الزمن الأغرّ, قد أُوتي الحكمة والجَلَد , وكشف عن خبيئة القوم وغَلَد : يا فخامة الرئيس , يا من نطق بالحقّ فكشف الستار عن قبح المشهد , أيُها الرئيس الذي أطلقت الكلمة فصارت سِهاماً, نعم , لقد صدقت , وربّ رميةٍ من غير رامٍ أصابت كبد الحقيقة , حين قلت أمام وفود العالم عن بلادنا :


إنها تسبح في بحر من النفط , ولا تحسن تدبيره , أشهدُ أنك وضعت يدك على الجرح , وكشفت العورة التي حاول القوم سترها بأثواب من الوهم والوعود الخاوية , فها هي بلاد الرافدين , التي أودع الله في باطنها خيراً عظيماً , وقد صارت حالها إلى ما ترى , لم يعد العجب في وفرة الثروة , بل في ضياعها تحت وطأة الفشل والفساد , إن ما قلته عن وفرة النفط وعجز الإدارة , لم يكن مجرد تصريحٍ عابر , بل كان رميةً من غير رام أتت على الأكاذيب المُتقنة , فعرّت الطبقة التي حكمت , وتوالدت منها حكوماتٌ غارقةٌ في الفساد والعبث والأُميّة الاقتصادية . لقد اعتمدت حكوماتنا المتوالية , منذ زمن ليس ببعيد , على أسلوب الاقتصاد الريعي فصار النفطُ غايةً لا وسيلة , بيعٌ للخام , وقبضٌ لثمنه , وتوزيعٌ عشوائيٌ أورث عجزاً مستديماً وفساداً بنيوياً , كأنما خُلقت هذه الثروة لملء خزائن معدودة , لا لبناء أمةٍ وتنمية أوطانها , ألا يعلم القوم , يا سيدي , أن هذا الزيت الأسود ليس مجرد وقودٍ يُحرق , بل هو خزانٌ لمستقبلٍ ضائع ؟ يدخل النفط الخام في آلاف الصناعات البتروكيماوية التي لا تُحصى , وفي صناعة الأدوية ومستحضرات التجميل , وفي الأسمدة التي تُحيي الأرض , وفي مواد البناء التي تُشيد الحضارة , دول العالم تتمنى قطرة منه لتُقيم عليها مصانع , بينما نحن نكتفي ببيع البرميل خاماً كأنه سلعةٌ لا قيمة مُضافة لها .


والعجبُ الأكبر, أن بلادنا تنام على أعظم احتياطي نفطي , وتُنتج ملايين البراميل كل يوم , ورغم هذا , فإنها تستورد الغاز والكهرباء من الجيران , ميزانيتها تعاني العجز الدائم , ومديونيتها تتصاعد كاللهب , ومدينة النفط الأولى البصرة الفيحاء يشكو أهلها العطش , وتُقابل مطالبة شبابها بالماء بهراوات مكافحة الشغب , لقد فشلوا فشلاً ذريعاً , ليس في إدارة الثروة النفطية وحدها , بل في إدارة الثروة البشرية أيضاً , فهل رأيت بلداً يُهمل أبناءه ويُضيّع كنوزه بهذا الشكل؟ أَوَليسَ العراقُ الذي أنجبت أرضُه الحكمة وعلّمت الدنيا الكتابة , قد غرق الآن في بحر من الفشل الاقتصادي المُميت ؟ لقد اعتمد القوم على أسلوب الاقتصاد الريعي الفجّ , فصارت الدولة مجرد صندوق لبيع النفط الخام , لاورشه عمل تُنتج الثروات وتُنمّي الأوطان , باعوا الكنزَ دون أدنى تفكير في قيمةٍ مضافة ,واكتفوا بالدخل السريع دون بناء صناعات وطنية تُنافس في الأسواق العالمية. إن النفط الخام , يا سيدي ابا ايفانكا , ليس فقط ما يملأ خزانات وقود سياراتكم , إنهُ سرُّ ألفِ صناعةٍ وصناعة , هو عصبُ الصناعات البتروكيماوية التي لا تُعدّ ولا تُحصى , والتي تُنتج اللدائن والألياف الصناعية والمطاط الاصطناعي , وهو ما تقوم عليه نهضة العالم الحديث , وهو يدخل في الصناعات الدوائية ومُستحضرات التجميل , وفي الزراعة لإنتاج الأسمدة والمُبيدات , وفي مواد البناء والتشييد , ووقود السفن العملاقة .


إن قائمة الصناعات التي يعتمد عليها هذا السائل الأسود تتجاوز العشرة آلاف نوع , ولكن ما حالنا ؟ العراق يبيع النفط خاماً فحسب , تاركاً خلفه الهوامش الربحية الهائلة ليجنيها غيره , والأدهى والأمرّ , أن هذا الخام يُصبح مادةً للتهريب والهدر في السوق السوداء والصفقات السياسية المُريبة , ليُصبح مورداً غير مُعلن للأحزاب وحملة السلاح والمافيات التي أُعطيت لها التسهيلات لتمارس النهب العلني والمُقنّع , وسلطاتُ البلاد لا تعرف ماذا تفعل بما يخرج من أراضيها , بل ولا تعرف تحديداً كم يخرج . نعم يا فخامة الرئيس , نحن في صميم هذه المشكلة منذ سنين , وهي أكبر من مجرد إدارة نفط , بل هي قضية إدارة وطن , واختناق رؤية , وغياب حكمة , فمتى تُستفاق الأمة من غفوتها , وتُحوّل هذا الخير الكامن إلى حضارةٍ قائمة , بدل أن يبقى خاماً يُصدّر ليُبنى به غيرنا ؟ انتهى كلام الشيخ , وبقي العراقيون يرقبون متى يُستبدل هذا الاقتصاد الأعوج باقتصادٍ منتج , يرفع الأمة من غياهب الريع إلى نور الصناعة والتنمية المستدامة. العجزُ فضيحةٌ كُبرى : ننتج كل يومٍ أكثر من أربعة ملايين برميل , هذا بحسابات الأبيض المُعلن , أما حسابات الأسود والتهريب , فلا يعلم حجم مدخولاتها أحد , ورغم هذا الإنتاج الهائل , فإن موازنة البلاد تشكو عجزاً دائماً وديوناً مُتراكمة , بينما نحنُ نستورد الغاز والكهرباء من الجيران , مُظهرين عجزنا عن استغلال ثرواتنا الغازية المُصاحبة للنفط , نعم , نحن في صميم هذه المشكلة منذ سنين , لكن ما العمل , وأنتم يا سيدي , جئتم لنا بهذه البضاعة السياسية التي أطبقت على صدر البلاد لدرجة الاختناق ؟ المشكلة أكبر من مجرد برميل نفط , إنها مشكلة حكمٍ فاشل , ورؤية غائبة , وفساد أكل الأخضر واليابس , متى يعي القوم أن الأوطان تُبنى بالصناعة , لا بالبيع العاجل للثروات الخامدة ؟ متى يستفيق العراق ويُحول النفط من مُجرد دخل ريعي إلى قاطرة للتنمية الشاملة ؟ هذا هو السؤال الذي يرقب جوابه كل مُحبٍّ لبلاد الرافدين .


تعليقات

أحدث أقدم