مشاهدات
عائشة سلطان
في ذلك البلد الذي ذهبت إليه في مطلع حياتي العملية، بدا لي كل شيء فيه مغايراً حد التناقض مع كل الأسس والقناعات التي كانت دائماً خطاً أحمر لا يصح تجاوزه، فإذا حدث، اعتبرت ذلك أمراً مرفوضاً لا تصح مناقشته ! في ذلك البلد كان من عادة الناس أن يتداولوا عبارات فيها الكثير من التجاوز على المقدسات، والمفاهيم المبدئية التي تعلمتها وتلقنتها لسنوات، فكانت تجربة السفر تلك بكل توتراتها محتشدة بالكثير من الارتباك والأسئلة، فمنعت عنى فرصاً جميلة لصداقات وعلاقات وحوارات، لكنها في الوقت نفسه كانت مثل فأس كافكا الذي كسر الكثير من الجليد!
بعد مرور سنوات طويلة، عدت لتلك البلاد نفسها، لكنني عدت إليها شخصاً آخر، كانت مياه كثيرة قد تدفقت تحت جسور الأيام، وكنت قد زرت عشرات الدول ومشيت في شوارع عشرات المدن، ودخلت ما لا يحصى من المطارات والمتاحف والشوارع والأسواق والمكتبات ، وعرفت مئات الأشخاص، ودخلت في نقاشات وحوارات وقرأت آلاف الكتب، وكانت أجمل صداقاتي من تلك البلاد تحديداً. اقتنعت أننا نكبر ونتبصر بمرور البشر والزمن، وأن هذا المرور والاختلافات ما يصنعنا ويجعلنا على ما نحن عليه في النهاية، وأن تلك النسخة التي كنّاها يوم تخرجنا في الجامعة ليست نحن، ولكنها جزء من الشخص الذي سنكونه بعد سنوات . لذلك فنحن اليوم، ونحن نقرأ رواية ساراماغو وأي كتاب آخر ذي أفكار مختلفة ومخالفة لقناعاتنا، والتي قد تشكل تخوفاً أو تحفظاً لدى البعض من قراءتها أو مناقشتها خشية من سوء الفهم، فإننا نستدعي كل مخزوننا من المعرفة والتجربة لنقرأ دون تردد أو خوف لكتّاب وروائيين لا يشبهوننا، ولا يؤمنون بما نؤمن، ولا يتحدثون بلغتنا، لأننا أصبحنا نعي أن قراءة كتاب كزيارتك مدينة جديدة وبعيدة، لا يفترض بها أن تشبه مدينتك، ولا يفترض بك أن تفعل كما يفعل أهلها، لكن لا يجب عليك أن تخاف منها، أو تحذر أهلها، لأن الله خلق الناس مختلفين ليتعارفوا، لا ليخافوا ويهربوا من بعضهم البعض، فهذه الحياة بنيت بالمعرفة والتعاون!
إرسال تعليق