اللجوء السوري في لعبة السياسة في لبنان

مشاهدات



محمد قواص
كاتب سياسي لبناني



في مسلسل "النار بالنار" الذي يعرض هذه الأيام حكايات تماسٍّ بين كتلة اللجوء السوري في لبنان والمجتمع اللبناني . لكن المناسبة تسلّط المجهر على جوانب السياسة والبزنس والعوامل التي تحدد تعامل العواصم البعيدة مع بيروت . وبغضّ النظر عن الحبكة القصصية التي تحتاج إلى إبراز المفاصل الدرامية فإن تناول هذه القضية في حساسياتها السلبية أو الإيجابية يلقي الضوء على الجانب السياسي-الاجتماعي لمشكلة اللاجئين في لبنان لجهة معاناة اللاجئين من جانب، وما تثيره في الداخل اللبناني من ردود فعل من جانب آخر لاسيما لجهة سعي بعض التيارات السياسية إلى أن لا تجد غير مشكلة اللاجئين سببا لأزمة البلد الحالية . ولئن تُشكّل المسألة ميدان جدل داخلي وقلق سياسي اقتصادي مجتمعي فإن المنظمات الإنسانية والدول المانحة تنبهّت لخطورة الظاهرة على اللاجئين ودول اللجوء فراحت تضخّ المساعدات المالية إلى لبنان (والدول المضيفة الأخرى) بغية توفير بيئة حاضنة تستطيع الصمود في الحدّ الأدنى لإدارة وجود اللاجئين في بلد باتت السواد الأعظم من سكّانه من لبنانيين وغير لبنانيين، يعانون ضائقة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخه . لا يعوز اللبنانيون في فسيفسائهم الطائفية والسياسية أسبابا للتناكف والخلاف فما بالك بقضية يسهل الانقسام بشأنها سواء في الموقف من أسباب هذا اللجوء السورية والمسؤولين عنه أو في الموقف من نتائجه التي يتراوح المزاج بشأنها من أقصى أنواع العنصرية إلى أقصى أنواع التضامن . 

 

وما بين الأقصيين حسابات عتيقة تنحدر من تاريخ التناتش الداخلي حول هوية البلد وخياراته ومن حسابات راهنة شديدة الالتصاق بجدل اقتسام السلطة والثروة في لبنان . يتجاهل بعض ساسة البلد حقيقة أن لا طائل من مقاربة لبنانية محلية لحلّ أزمة اللجوء السوري من دون حلّ كلي شامل يتعلق بالأزمة السورية نفسها. وفيما يطالب قسم منهم بأن يكون الحلّ بإعادة اللاجئين إلى بلادهم من خلال تطبيع رسمي كامل لعلاقات بيروت ودمشق وبالتعاون مع حكومتها فإنه ثبت عقم ذلك لأسباب تتعلق بقرار دمشق نفسها في هذا الصدد من جهة وبسبب ضغوط دولية أممية وحتى داخلية ترفض أي عودة غير طوعية وغير آمنة. وفق ذلك بقيت دفعات العائدين إلى بلادهم برعاية وإشراف مدير الأمن العام السابق عباس إبراهيم تجريبية محدودة لا يمكن التعويل عليها حلاً جديا للمعضلة . ترتبط ظاهرة اللجوء السوري المكثف خصوصا في تركيا والأردن ولبنان بالصراع الذي اندلع في سوريا منذ عام 2011. وإذا ما كان الهرب من ويلات الحرب هو الدافع الطبيعي للهجرة واللجوء فإن عودة اللاجئين تتطلب قبل كل شيء أمانا لا يأتي إلا بانتهاء الحرب وتوفير بنى تحتية لعودة ملايين تهدمت مدنهم وقرارهم وأحياءهم . وإذا كان الشرط الأول يحتاج إلى تسوية سياسية ما زالت عسيرة لوقف لغة النار فإن الشرط الثاني يحتاج إلى تمويل دولي ما زال غياب الشرط عائقا له. فما زالت الولايات المتحدة وأوروبا بصفتها دولا أساسية مانحة ترفض تمويل إعادة الإعمار وعودة اللاجئين قبل قيام تسوية سياسية تقوم على أساس القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي . عاشت أوروبا كارثة اللجوء عموما ومن سوريا خصوصا حين اندفع أكثر من مليون لاجئ إلى بلدان القارة عام 2015. دافعت المستشارة الألمانية آنذاك أنغيلا ميركل عن قرارها بفتح أبواب ألمانيا أمام أفواج اللاجئين، فيما تسبب الأمر بتوتر داخل كافة بلدان الاتحاد الأوروبي وأنعش التيارات الشعبوية فيها. وكان على الاتحاد إعادة ترتيب اتفاقاته السابقة مع تركيا لوقف تدفق للاجئين كان من شأنه إغراق أوروبا بويلات الشرق الأوسط . 

 

وإضافة إلى الأبعاد الإنسانية الإغاثية في تحرّك المجتمع الدولي فإن لأوروبا خصوصا أسبابا موضوعية لتوفير الأموال لدول اللجوء في المنطقة بما في ذلك لبنان بغية منع تدفق اللجوء و"فيضانه" باتجاه الضفاف الأوروبية للبحر المتوسط. غير أن أمر عدم انهيار لبنان تحت عبئ أزمته الاقتصادية التي وصفها البنك الدولي بالأسوأ في العالم خلال القرن الماضي فرض على واشنطن وحلفائها الأوروبيين وامتداداتهم في الإقليم الحرص على وصول المساعدات الإنسانية طالما أن الدول المانحة ترفض تقديم الدعم الاستراتيجي المالي قبل تنفيذ لبنان إصلاحات يطالب بها صندوق النقد الدولي . وفق روحية الحفاظ على تماسك البلد وعدم انهياره تُجمع العواصم المعنية على عدم وقف الدعم عن الجيش اللبناني. تقود الولايات المتحدة هذا الدعم العسكري بجانب وازن، لكن دولا كثيرة غربية وعربية واصلت توفير ذلك الدعم الذي يمكّن المؤسسة العسكرية من مواصلة امتلاك إمساك أمن البلد ومنع الفوضى الكبرى. وقد تطورت مساعدات الدول المانحة للجيش اللبناني وباتت تأخذ أشكال مساهمة في تمويل رواتب العسكريين وتأمين حدّ مقبول من المستوى المالي لمكافحة الانهيار الخيالي لليرة اللبنانية أمام الدولار. يخشى العالم الفوضى الكبرى التي تفتح شواطئ لبنان أمام لاجئيه. ويتناقل اللبنانيون تصريحات مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف في نوفمبر الماضي في ندوة لمعهد ويلسون الأميركي بشأن "تفكك الدولة" في بلدهم. زارت الدبلوماسية الأميركية بيروت قبل أيام وأعادت التحذير في مقابلة مع مؤسسة مي شدياق بأن "لبنان على مفترق طرق وفي لحظة حرجة للغاية". بقى أن ساسة الداخل يدركون أيضا مخاوف هذا الخارج ليس فقط على مصير البلد بل على ما يمكن لأي انهيار أن يحدثه على دول الجوار القريب والبعيد. وعلى هذا تبدو معضلة اللجوء السوري على الرغم من قساوته على السوريين واللبنانيين ورقة خبيثة من أوراق الابتزاز الذي تُمارس لصدّ ضغوط الخارج الإصلاحية والتملّص من خيارات على مستوى هوية الرئيس المقبل ومنظومة السلطة التي سينتجها انتخابه.

 

المصدر : عربي-sky-news

 

تعليقات

أحدث أقدم