رحلة الى النفس

مشاهدات

 


 

د. خضير المرشدي 


تمر علينا هذه الايام ذكريات عدة إختلطت فيها مفاهيم وقيم ، افراح واحزان، امال واحباطات، انجازات واخفاقات ، وامتزجت فيها انتصارات وهزائم، وطموحات بعثرها الزمن بين ثنايا الذات التي كادت ان تكون في حال غير الحال الذي تعيشه لو قُدِّرَ لها من يأخذ بناصيتها صوب الجانب الابعد عن مخاضات الموت .. كانت اسبابه ونتائجه واضحة وبيّنة، منها ماهو عدوانات خارجية أطاحت بهذه الطموحات، ومنها ازمات معقدة وممارسات محلية أسهمت في بعثرة الروح وقتلت فيها عناصر الانطلاق نحو مجد منتظر .. تأتي في مقدمة الذكريات ذكرى لطالما إبتهج بقدومها الملايين، تغنوا بأصالة فكرتها وحيوية روحها وقدرتها على التجدد وهي كذلك، وكان لها من الانجاز التاريخي في كل حين، ما يجعلهم يتراقصون فرحاً وبهجة .. تلك هي ولادة ( البعث ) التي امتازت بخلود الرسالة ورصانة المنهج وعمق المحتوى واقترنت بمنهج الانبعاث الذي هو منهج الشعوب الحرة في رحلة البحث عن الذات المعلولة التي لولا ضياعها بين سكرات الموت المحيط بها من كل حدب وصوب، لكانت هي الروح الوثّابة لبناء المستقبل كما أُريد بها  وخُطٍط لها ان تكون . 

 

ولدت فكرة البعث منذ بدايتها ومن الاساس فكرة ( متوترة )  فكرة تتطلب مستوى متوتراً من الثورية وكان طبيعياً كما يقول مؤسس البعث ان يكون العراق العربي بظروفه المأساوية القاسية هو المنطلق لبداية تحقيق جدي لهذه الفكرة التي حملت مبرر قتلها وتحدّت الموت مرات ومرات ولا زالت تتجدد وتقاوم ، ولن تموت رغم السهام التي تستهدف جسدها النابض بالحياة ورغم اليباب واليباس .. فعندما تسعى الفكرة لإنتهاج مفهوم ومحتوى يغّير وجه التاريخ بمباديء انسانية القومية، وقومية الاشتراكية، والتلاحم التام بين العروبة والاسلام، لابد لها ان تُواجه بمثل ما واجهت من تحديات !! لإنها أي ( فكرة البعث ) بمرتكزاتها هذه مثّلت اصالة الامة بكل معانيها واستوعبت حاضرها بكافة مشاكله، ورسمت مشاهد مستقبلها بكل آماله .. لذلك ورغم الجراح الغائرة تواجه اليوم احتلال متعدد الاهداف وازمات مركبة ذاتية ومحلية وخارجية تزامنت عن قصد وتخطيط مع ذكرى الميلاد لتعطي الاشارة الى ان ولادة الفكرة الاصيلة تُعَد الخطر الاكبر الذي يهدد مشاريع  ومخططات الاستعمار التدميرية .. وبهذا فإن احتلال العراق ومحو دولته الوطنية ومحاولات تشويه فكرة البعث وشيطنتها وتشويه سمعة قادتها ومناضليها واجتثاث منجزاتها واهدافها كانت من اولويات الحملة الدولية الكبرى التي زرعت في قلب المجتمع العربي حالة من الاحباط وانعدام الثقة واليأس والقنوط .. ولكي يحقق البعث مع قوى الشعب الوطنية الاخرى عملية انقاذ الامة، فإنه بحاجة الى رحلة طويلة ومضنية الى الذات التواقة الى مراجعة قاسية لكل محطة من محطاتها الحلوة والمرة، وكل منظومة من منظومات فكرها ( الاصيل ) المغلّف بخطابات النفاق والمبالغة والمباهاة وغياب الحقيقة .. من منّا لم يمر بمرحلة البحث عن الغايات العظمى في هذه الحياة ؟؟؟ ربما العديد من البشر من لم يكترث لضرورة استكشاف وعيه الذاتي او يتطلع الى قفزة تطورية او تنويرية  في الفكر او تغيير في التفكير بل ومنهم من يقاومها ويحاربها ويبذل المجهودات لاجهاضها وتشويه صورتها لأسباب عديدة، منها ماهو ذاتي مرضي متخلف وغبي، ومنها ماهو بدفع من جهات لها مصلحة في قتل الفكرة الجديدة وموتها .. 

 

لقد تناول الفيلسوف الشهير ( كارل يونغ ) فكرة (( الصحوة الروحية حين قال إنها الجزء الجوهري لوجودنا الإنساني، إذ بدون هذه القفزة الروحية، والارتقاء الفكري، وما يتبعهما من تغيرات في أسلوبنا الحياتي ومراجعةٍ لقيمنا العليا، فإن حياتنا الإنسانية ستبقى تراوح مكانها، وستكرر البشرية نفسها من جديد، بلا تحديث أو إضافة حضارية ))، واستطرد قائلاً إن مفهوم الصحوة الروحية ورد كذلك في الثقافات القديمة بل وحتى في الأديان بصورة أو بأخرى، ويتلخص هذا المفهوم في تغير نظرة الفرد إلى ذاته وعلاقته بالعالم والكون المحيط به، وكأنه يعيد النظر في هذا الوجود من جديد، وفي دوره فيه .. مما يتطلب من القائمين على الفكرة الذين تحلو لهم صفة ( المناضلين ) مراجعة شاملة لذاتهم اولاً وقبل كل شيء لتنقيتها من سوء الظن والمكر والانانية وشرور الانتقام وظلمة التفكير، ومعتقداتهم وقيمهم الروحية ومناقشتها ثانياً، لتطويرها وتحديثها أو الاتيان بما هو افضل منها مفهوماً ومحتوى سواء تجلّى هذا الأمر بالمناضل ذاته او بالفكرة التي يؤمن بها .. وهذه ليست دعوة للتخلي عن الفكرة مثلما قد يفسرها المغرضون .. بقدر ماهي دعوة للتجديد الذي هو قانون الحياة وناموس محتواها .. وباستمرار الحالة النقدية والمراجعة الجادة يدفع بالشخص والحركة بإعادة ترتيب أولويات الحياة، وتحديد الاهداف والرؤية على اسس تواكب روح العصر وتفهم طبيعة الصراع الجديد وتجد الحلول الحضارية لأزماته، وتنقذ الحركة من الاندثار والضياع .. فإعادة اكتشاف الذات تعني إعادة اكتشاف قدراتنا وقوانا ووجودنا.. فما احوجنا الى مثل هذه الرحلة صوب الحقيقة .. حقيقة اكتشاف الذات على طبيعتها دون تزلّف او زيف او نفاق ..  ولعلّ من أهم نتائج هذه الرحلة هي الوصول إلى ( التوافق الروحي ) أي أن نصبح نسخة اجمل من ذواتنا الحالية ونصبح قادرين على التأسيس لعهد جديد من البطولة والثورية، الذي سيفتح لنا آفاقاً جديدةً، ورؤية أكثر بعداً وفاعلية وتأثير .. وهذا ما يحتاجه البعث في عامه الجديد كي يعود الاطار القومي بمحتوى انساني جديد يقاوم به المحتل واذنابه ويرسم بريشته الغضة طريق الخلاص … انها دعوة مخلصة للمساهمة في رحلة مشرّفة للنفس لتنقيتها من سوئتها، وزرع بذور التسامح في ثناياها كي تفتح الطريق لحوار جاد وبناء يلم شمل ( المناضلين ) ويحقق وحدة الفكرة والهدف والمسعى .. وبغير هذه الرحلة علينا ان ننتظر الاندثار الذي قاومناه وضحينا بمقاومته الكثير ولا زلنا …  

 

كل عام والمناضلون الصادقون بخير

تعليقات

أحدث أقدم