عشرون سنة بعد الحرية (2)

مشاهدات

 

ضرغام الدباغ

 

الجولة الأولى من المحنة أنقضت ولكن دون أن تترك جروحاً أو ندبا عميقة مؤثرة بل كانت في آثارها أقل ضرراً مما كنت أتوقع شخصياً. كنت حين دخلت" قبور الأحياء " (عام 1987) كما يسميها بعض الادباء كنت في ذروة تألقي الفكري وذروة قدراتي اللغوية الأجنبية وقد قد أنهيت لتوي الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة لايبزغ/ ألمانيا وحين خرجت للحرية ( 20 / 10 / 2002) كنت منهكاً صحياً بسبب الحساسية التي قادت إلى ربو ولفرط تناول الكورتيزون ولكني كنت أشعر بأني قوي .. لا أدري من أين هبط على هذا الشعور. بعد 3 شهور (23 / شباط / 2003) حين وصلت لبرلين بعد غياب عشرين عاماً وجدت كل شيء منهار فأنا لا أكاد أملك شيئاً عدا ما هو ملتصق بدماغي (علم، وثقافة، ولغات) ولكن حتى هذه بحاجة إلى تنشيط وكنت قد قررت أن هذه ستستغرق وقتاً (ربما سنوات) عبر مطالعة كثيفة ثم لابد من إجراء فحوصات دقيقة واستعادة ما يمكن ترميمه من الصحة .. استيعاب التطورات العلمية والثقافية واللغوية تمت بأسرع مما كنت أعتقد ولكن الشأن الصحي كان أكثر جدية. إذ أحالني الطبيب إلى فحص ضروري للكبد على ضوء الكمية الكبيرة من الكورتيزون وتوقع أن يكون له تأثير سلبي على الكبد وفعلاً  في عيادة الفحص بالاشعة تحت الحمراء (infrarot)كانت النتيجة مفزعة للطبيبة التي لم تتمكن من إخفاء جزعها فالنتيجة كانت سلبية جداً فالكبد كان في حالة سيئة للغاية ولكن طبيبي العائلي طمأنني وقطع عني الكورتزون تدريجيا وتأمل أن يتمكن الكبد من إصلاح الأضرار ذاتياً بصورة طبيعية وبالفعل خلال مدة وجيزة بدأت المؤشرات الإيجابية تظهر على الكبد . 

 

المشكلة التي لم أكن أقدرها حق قدرها تمثلت بالتغيرات العميقة في المجتمع الألماني وبعض تلك التغيرات كان يمكن أستيعابها بالقرأءة والمتابعة طالما هناك إرادة ولكن الصعوبة الكبيرة تمثلت أن المجتمع الألماني كان قد تحول إلى الكمبيوتر (computerised) بدرجة كبيرة والعمل اليدوي يتراجع ويكاد يختفي . وكان الكومبيوتر المنزلي قد غزا الحياة العامة وكان (pentium 4) في أبدع صوره الانجازية (وهو اليوم لا يعد شيئاً يذكر أمام Windows 11) ورغم أن الكومبيوتر قد أصبح شيئاً حاسما ألا أنني وصلت في المرحلة الضرورية ورغم محاولاتي إيهام نفسي أن الكومبيوتر سوف لن يقضي على سطوة ومجد القلم والورق والاستخدام الذكي للكتابة على الورق مباشرة بما يتيح للكاتب التصحيح والتصويب وإدخال جملة على نص مكتوب واستخدام الاقلام بألوان مختلفة وكانت هذه كلها في إطار مقاومة فاشلة غير مقنعة لأنتصار الكومبيوتر لا جدال .. إذن اقتنعت بصعوبة أن من لا يتقن العمل على الكومبيوتر فليهجر مهنة الكتابة ومكرها أخاك لا بطل بدأت بتعلم الكومبيوتر الأرضي الكبير في معهد ثقافي عربي في ألمانيا وكنت قد ريضت عقلي أن لابد من تعلم هذا الجهاز اللعين لا محالة والأمر بالنسبة لي حاسم بدرجة قطعية. فأخذت أعمل وأتدرب وأسأل الشباب الموجودين في المعهد ثم أخذت أداوم وحدي في المعهد أيام العطلة الأسبوعية (السبت والاحد) من الصباح وحتى العاشرة مساء ... وكنت آخذ معي الطعام والشاي وملابس مريحة وهكذا خلال ستة شهور من العمل المتواصل صار بوسعي أن أفتح الكومبيوتر وأكتب وأستخدم (الأوفيس) والأنترنيت فصار لابد من شراء الكومبيوتر الخاص مع الشاشة (المونيتور) وكان من الطراز القديم (أبو الحدبة) وأصبح الكومبيوتر الفطور والغداء والعشاء وهكذا كان عام 2004 وعام 2005 عام الغطس في عالم الكومبيوتر ومع عام 2006 كانت قدراتي جيدة .. وبوسعي أن أعمل بشكل مستقل الكومبيوتر كان تحدي كبير بالنسبة لي ولكني أستطعت تجاوزه . 

 

بدأت العمل بإصدار الأعداد الأولى من نشرات المركز العربي الألماني الذي قمت بتأسيسه عام 2006 / 2007 وبعد فترة وجيزة أصبح العمل احترافيأ وأيقنت أن تعلم الكومبيوتر بطريقة احترافية كان التحدي الأكبر الذي واجهته في حياتي  وأن تضع نفسك في مجرى هذا التيار فهذا يعني أن عليك أن تمتلك لياقة فكرية وعلمية لتواكب التطور اليومي بلا مبالغة فالتطور يتواصل على مستوى صناعة الكومبيوترات والأجهزة المساعدة فعلى سبيل المثال كانت قدرة أول كومبيوتر (لابتوب) اقتنيته وكان من ماركة ممتازة (HP) لا يزيد عن 50 غيغابايت واليوم الجهاز الذي أكتب عليه (لابتوب) قدرته هو 1000 غيغابايت(1 تيرابايت) مع العلم أن عمره نحو 8 سنوات من ماركة سامسونغ . أما القدرات التخزين والحفظ فقط طورتها التكنولوجيا بشكل خيالي في مطلع القرن كانت الأداة الرئيسية لحفظ المواد هي " الديسك" وهي بطاقة استيعابية بسيطة تطورت بعد سنوات إلى قرص مدمج قدرته أكبر من الديسك وكلا النظامين يمكن أن يتعرضا للتلف بسهولة ثم ظهر ما يسمى (فلاش ميموري )" بطاقة استيعابية بسيطة جداَ ولكن خلال 15 عاماً تطورت قدرات الفلاش ميموري بشكل خارق حتى بلغ اليوم 182 غيغابايت ... حجمه بقدر نصف الاصبع الأوسط وبسعر بسيط نسبياً ثم انهمرت في الاسواق منتجات الكترونية كثيرة حتى صار من الضرورة المتابعة اليومية للوقوف على الأحدث. بصراحة وبدون مبالغة في حياتي مفاصل كثيرة وقررات كبيرة ولكن القرار بتعلم وإتقان الكومبيوتر كان من أهمهما على الإطلاق وتعادل قراري بدراسة الدكتوراه وحتى يمكنني القول أني مدين بكافة منجزاتي العلمية والبحثية وحتى الشخصية هي بسبب تعلم الكومبيوتر. نعم ساعدني عدد من الأصدقاء ولكني تعلمتها بمجهود فردي في المعهد العربي الألماني / برلين . اليوم عشرون سنة حرية .... ويومان ...! فقد حدث ما أعاق طارئ نشر هذا في وقته ولكني أريد القول يلاحقني هاجس أن أعمل .. وأعمل .. وأعمل كثيرا بلا هوادة ولا توقف أريد أن أقدم كل ما عندي وأقول ما أريد قوله ورغم أني اشتغلت كثيرا جداً في السجن بما يزيد عن 10 ساعات يومياً وقدمت منجزات ما كان لي أن أنجزها خارج السجن فخارج السجن يضيع كثير من الوقت سدى ولكني كنت أعمل في السجن بدقة وانضباط وانجازية عالية جداً . منذ أن خرجت للحرية وأنا أواصل العمل يومياً بدون توقف أكتب أكثر ... مع أن قدراتي الصحية تراجعت كثيراً إلا أني أراجع مؤسسات طبية ممتازة وأعتقد أنها تطيل عمري كما خلصتني من بعض الأمراض وحسنت من أداء وظائف الجسم لدي قدرة لا تنتهي على القراءة والكتابة والمتابعة وقد تراكمت أعمالي المؤلفة والمترجمة إلى نحو 70 كتاباً وكم كبير من المقالات والبحوث والقليل منها انتفعت مادياً منها وأغلبها أوزعها مجاناً على من يطلبها . أسست منذ 17 عاماً المركز العربي الألماني للدراسات والبحوث وصدر عنه كما هائلاً من الأعمال وما يتابع نشرات المعهد من 17 عاماً يستطيع أن يكون خبيرا بالشؤون الألمانية .... ومؤخرأ (منذ شهور) أسسنا المعهد الألماني العربي للدراسات السياسية / الدبلوماسية . لا أعرف كم بعد يمكنني المواصلة ولكني سوف لن أتوقف ... العراق وشعبنا وأمتنا تستحق كل تعب وحتى النفس الأخير .... حتى النفس الأخير يا عراق كما وعدناك منذ شبابنا ....  وعلى العهد حتى النفس الأخير ....

تعليقات

أحدث أقدم