شَيءٌ مِنَ الأُفِّ

مشاهدات




(خاص بجيلِ السّتينيات، وجوازُ عتريسَ باطلٌ من فؤادة)..

 

هَمَسَ لخليلهِ همساً خفيّاً، إذ يُحاوِرَهُ عن حصادِ دهرِهما وإرصاده . وإذ هُما مُستَوريانِ على ثرثرةِ ظريفِ جمرِهما، ومُسترخيان على غرغرةَ خَريفِ عُمُرِهما وإمتداده . وإذ صَيّرَت عَبَراتُهما من صرصرةِ الأيامِ فُرُشاً، وتَخَيَرت من خَرخرتِها وسادة. وإذ حيَّرَت نَظَراتُهما سَبْتَ المُتَلَبِّدِ في تَأمِّلٍ، وكَبْتَ المُتَكَبِّدِ في تَحمُّلٍّ، وخَبْتَ المُتَعَبِّدِ في عبادة. همسَ لِخِلِّهِ مُتَأتأً : (أُفٍّ يا خِلَّ، وقدِ إستَحضَرَ فؤادي "شيئاً من الخوفِ" فبئِسَ الخوفُ، وتَعِسَت دُسُرَهُ وأوتاده ! لا تَوجلْ يا خِلُّ لا توجلْ! فإنّما أحَدِّثُكَ عن” فِيلمٍ في سِيلما” ومانَضَخَهُ الفيلمُ، وماضخَّهُ آنئذٍ في وجديَ من تمرُّدٍ وعناده! فهَوِّن عليكَ وأهجرْ الخوف، وأكفر بإرتعاده! فماعادَ في ديارِنا ديارِ العُربِ ميدانُ حربٍ، ولا درعٌ، ولا حتّى خَرْطوشةٌ لعتاده. وما عاد فيها تَبَخترٌ لخُطىً بِسمُوٍّ في عَينِ دخيلٍ، ولا تَمخترٌ لسعفٍ بعلوٍّ في نخيلٍ وإعتداده . أفَتذكرُ يا خِلّي فيلم "جوازُ عتريس باطلٌ من فؤادة"؟ فلَنِعمَ الفنُّ ذاك، ولنِعمَ الصنعةُ والإجادة. فهلّا -يا خِلَّ- أولو بقيةٍ من فَنٍّ، يَزأرُ الآن بِعنفوانٍ ولن أبغي زيادة : "لا هوانَ، وجوازُ عتريسَ باطلٌ من فؤادة"؟ أفَتظنُّ أنَّ النَّفيرَ قد خَنَسَ في ضميرِ الضادِ، وغطسَ في نكيرهِ، وفَطَسَ في فُؤاده؟ أم تَرى أنَّ الصفيرَ قد طَمَسَ هديرَ شبلِ الضادِ، وكنَسَ سطرَ الإجادة والإفادة: "لا خنوعَ، فإمّا نصرٌ مبينٌ وإمّا شهادة" ؟

 

ردَّ عليهِ صاحبُهُ مسترخياً نبضُهُ وفؤاده :


مهلاً، على رسلِكَ يا خِلّ! فلا خنسٌ ولا كنسٌ في أمّةِ عدنانَ وقحطانَ والشام والقيروان، ثمَّ بغدادَ ومنها كان مدادُ القلمِ ورحيقُهُ وإستزاده، فنحنُ -يا خِلّ- أمّةٌ بقرآنٍ مُعجِزٍ عَجَب، وبيانٍ موجزٍ وحسبٍ، ونسبٌ يعلو الإشادة. أمّةٌ كفرت بالغرانيق، ونفرت لببيتٍ عتيقٍ، وروضةٍ ببريقٍ، وظفرت بأقصىً عريق، وذلكَ تثليثُ السيادة ؟ أوَنسيتَ يا خِلّ؛ نحنُ أمّةٌ سَلَفُها اُسْدٌ، وخَلَفُها أُورِثُوا رُشدَ الريادة، ولا يرضعُ إلّا العرشَ لبناً، ولا يَتقَلّدُ إلا عِزَّتَهُ قِلادة. أمةُ تأبى خُنوعاً وتَخشَاها الجَهالةُ والرَّمادة. أمَّةٌ لا تَعرفُ همّاً، ولا غمّاً، ولا عجزاً، ولا حجزاً، ولا بَلادة . تَمتَمَ صاحبُ بالجنبِ، ثم غَمغَمَ وهو يحاورهُ بحزينِ إنشاده : إذاً فماليَ -يا خِلّ- أرى أمّتي تتباهى ب “آرب تالنت” وزرعِهِ وحَصاده؟ أفَتظنُّ يا خِلُّ أنَّها رَكَنَتْ فَسَكَنَت إلى "عصابةِ توتو، ودعابةِ اللّمبيّ، وخطابةِ حَمادة"؟ أوَما تَرى ياخِلّ دروبَها باتَت "شَخبط لخابيط" وإستمرأت لهوَهُ ولغوَهُ وفَسَادَه؟ أما تَرى ضروبَها تتَنَطّطُ كبالونٍ، أو كَسُرْوٍ يتقافزُ تيهاً بين الأمم، والسُروُ: إبنُ الجرادة؟ أما تَرى غُروبَها يتَأبَّطُ صالونَ تَدليكٍ بين ذُكرانٍ وإناثٍ، بلا نُكرانَ وسواءً على الوِسادة؟ أما ترى كيفَ إستَلطَفَت عباءةَ "شاهدٍ مشافشِ حاجة" لِتَتَغشّى بها من جورِ سلطانِها، ولتَتَمشّى بها في ظلالِ حِياده ؟ ردَّ عليهِ صاحبُهُ بِتَأفِّفٍ في نبضِهِ وإشتداده :

 

كلّا خِلُّ كلَّا، فلا تَخاطبْها ب(عصابة توتو)، ولا ب(سرو الجرادة)، بل عِتَابُها : " ألم يَأنِ لأمّتي أن تَعتَبِرَ من أممٍ فَقَدَت الحِكمَةَ والحُلمَ والقيّادة ؟ من أمَّة نَحَتَت من الجَبلِ بَيتاً وقَصراً وعِمادَه، وإنْ بَطَشَت فجبَّارةً على الضعيفِ ظلماً تبغي أضطهادَه، فكانَت عاقبتُها صيحةَ تَدميرٍ وإبادة. ومن أمّةٍ زَنَت، ومَا زَنَت مِكيالَها تَرنو استزادَه، فأخذَتْها رجفةٌ دَمَّرَتِ حرثَها والنسلَ إلا فضاءً أو جَماده. ومن أمّةٍ شَيَّدَتْ صرحاً إلى إلإلهِ تبغي إنتقاده، بخنوعِ قومٍ وإنقيادِه، وكنزتْ كُنوزَاً وزينةً بِخُيَلاء ووهمٍ من سعادة، فكانَ جَزاؤُها خَسْفاً أطاحَ بالنفسِ والدَّارِ، فما كانَ من حَولٍ ولا إرادة، ثمّ قُطيْراتُ ماءٍ سَدَّتْ حلقومَ مَعبودِهُمُ وأغرقَتْ أجنَادَه . سكتَ صاحبُهُ وخَمَدَ سعيرُهُ، وغَمدَ مأتمَ الحزنِ، وكمدَ مواقيتِ حِداده : أجل يا خِلُّ، صدقتَ، وذَيَّاكَ هو الغَضَبُ المَحذُورُ، وذَيَّاكَ الذي ... لابأسَ يَرفعُهُ، لا صمودَ يَدفعُهُ، ولا تنفعُهُ ضمادة. بيد أنيَ لا أبرحُ أوسوسُ: ألا مِن مُزَمجرٍ اليومَ ولو بفِيلمٍ غيرِ ملوَّنٍ، وأنا لن أوسوسُ بزيادة : "نحنٌ لن نستسلمَ، فنصرٌ مبين أو شهادة"، و"جوازُ القرد من الأقصى باطلٌ، رغمَ شرودِ الفكرِ وحيودِ فؤاده! أُفٍّ لكَ يا خِلُّ أُف! مالكَ عليَّ لاتَرُدُّ ولا تَحُفّ!  أوَهكذا أنتَ مافتِأتَ مُغرَماً بخيطِ الغفوةِ على حين غفلةٍ، ولا تبغي إفتقاده . لا تثريبَ عليكَ ولا حرج ، نَمْ ياخِلُّ نَمْ، ودعْ شَخيرُكَ يعزِفُ لي سمفونية "زواج فيغارو"، أو عزفاً لسنطورٍ منفردٍ عنوانه : "أبوابُ القهرِ وأنيابُ إضطهاده". تَحيةٌ لأولي بقيةٍ من زمنِ الطبيبين مابرحوا يهتفون" جواز عتريسَ باطلٌ من فؤادة" .


 

تعليقات

أحدث أقدم