هل يمكن أن تتعلم ممن هو أقل منا علماً ...؟

مشاهدات

 



ضرغام الدباغ


عام 1983 كنت حديث التخرج من الجامعة ونيلي شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية / العلاقات الدولية كنت في بغداد وذهبت لزيارة صديقي المقرب نجاح عبد الرحمن حياوي صاحب مكتبة النهضة المعروفة في شارع المتنبي ودخلت المكتبة ولكن صديقي نجاح لم يكن موجوداً فأقترح علي شقيقه الصغير محمد (وهو صبي ربما في السادسة عشر) أن أنتظره وهو لن يتأخر طويلاً وفعلاً جلست في ركن مدير المكتبة والمكتبة مبردة وحولي آلاف الكتب وهذا عز الطلب تناولت أحدها وبدأت أقرأ .


وفي المكتبة كان صبي مصري يشتغل كعامل وهو ولد بسيط وسنه أقل من السادسة عشر وكانا محمد والصبي المصري يتبادلان الأحاديث ولم أكن منتبهاً لهما حتى بدءا يتجادلان في موضوع يدور عن مصيبة ألمت بجارهم في شارع المتنبي إذا فقد جار لهم (صاحب مكتبة) أحد أولاده شهيداً في الحرب وفي اليوم الرابع وبعد انتهاء الفاتحة جيئ بولده الثاني شهيداً وعلق محمد على الموضوع : إنها مصيبة أن يفقد رجل ولدية خلال 4 أيام ترى ما هي الحكمة في ذلك .. الله له حكمة في كل شيئ ولكني لا أفهم ما هي الحكمة في موت ولدين خلال 4 أيام .. ؟. كنت أستمع للمحادثة دون أن أشترك بها وبيدي كتاب أقرأه ليأخذ الولدان حريتهما في الحديث فأجابه الولد المصري : وأنت ماذا تعلم من حياتك ودنياك لكي تعرف الحكمة في ذلك .. ومن أنت ..؟ لقد ولدت دون أن تستشار وستموت دون يؤخذ رأيك لا تعرف متى ولدت ومتى ستموت لا أحد يأخذ رأيك حين تمرض أو تسقط عليك صاعقة من السماء الأحداث الهامة في حياتك يتدخل القدر فيها وفي تفاصيل حياتك من الرزق إلى التعلم إلى السفر إلى الزواج وأشياء أخرى كثيرة ... نحن لا نعلم الغيب الذي لا يعلمه سوى الله الله سبحانه يدير هذا الكون بمليارات البشر وله حكمة ومغزى في كل ما يحدث ويدور وأنت أخلص النية إلى الله وتوكل ... لم أعد أطيق البقاء والجلوس فقلت لمحمد شقيق نجاح إذا جاء أخوك أخبره أن يتصل بي فيما بعد وخرجت إلى شارع الرشيد بأتجاه باب الشرقي وهي مسافة تبلغ نحو 3 كيلومترات أستمتع بالتمشي وأصادف كثير من الأصدقاء ولي عدد من الأصدقاء أصحاب المحلات والمقهى البرازيلية كانوا أصدقائي فأنا من روادها التقليديين القدماء . ولكن فكري كان مشدوداً إلى المحادثة المهمة جداً التي استمعت إليها عفواً دون قصد ورحت أفكر بصدق الكلمات التي قالها الصبي المصري وعمقها وأنا الذي أمضيت عمري بالقراءة والدراسة والعمل السياسي ودرست في أرقى جامعة  ولم  أكن أتصور أن صبي غير متعلم يعلمني درساً مهما سوف لن يبارح مخيلتي ... كنت أسير كآلة مسيرة لا أسمع ولا أرى ولا أتحدث .. التفكير شغلني بصورة تامة ولم أشعر بنفسي إلا في الباب الشرقي .


الحياة عبر ينبغي أن نستفيد من كل تجربة ومعايشة وأعلم أنك مهما بلغت من العلم فأنت بحاجة للتعلم  نعم الكتب تعلمنا ولكن للكتب فضل واحد هو أن تنفعنا في حياتنا العملية والحياة العملية تعدل وتصحح ما قد تعتبرها حقائق نهائية ... لذلك لا تستبعد أن تتعلم ممن هو أقل منك علماً ومن الأحداث العجيبة أن يستشهد محمد عبد الرحمن حياوي (أصغر أخوته عام 2007) في حادثة التفجير الإرهابي في شارع المتنبي في المكتبة وهو الذي يعيش بين الكتب منذ أن فتح عيونه على الحياة ... تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه الجنة .


تعليقات

أحدث أقدم