المعطف .

مشاهدات




عالية محمد علي  

كانت تبدو من بعيد . من الباب المشرعة المفتوحة على اليسار واليمين . صفوف ملونة من المعاطف والفساتين في محل راقٍ لازياء الاطفال مكتوب في واجهته ( المقص الذهبي ) كان صاحبه لبناني الجنسية جميل الصورة . ربما جاوز الاربعين من العمر . دخلت متاهة الالوان والموديلات طفلة في السادسة من العمر . تتغاوى بفستان قصير من الدانتيلا البيضاء المموهة باللون الأزرق وجوارب قصيرة بيضاء بحافة زرقاء تنتهي الجوارب بحذاء مشدود على كاحلها الرقيق بلطف يحنو على قامتها النحيلة . كانت بصحبة والدها الذي يبدو كجدها . فهذه الطفلة جاءت بعد زمن طويل من معاناة والديها بسبب العقم الذي بلا سبب . يمسك بيدها الصغيرة بأحكام . وكأنه يخشى عليها من الطيران !

كان صاحب المحل مبتهجاً بقدومهما ورحب بهما . أنتبهت الصغيرة الى يدها التي انفلتت وتحررت والى والدها وهو يصافح الرجل فتسربت كطيف وأخذت تدور بين المعروضات تتلمس فستاناً من هنا وبنطلوناً ملوناً هناك وتوقفت أمام صف من المعاطف لتأخذ نفساً عميقاً عند أكمام المعاطف وكأنها صياد بحاجة لمعرفة نوع طريدته !

ألقى والدها بنظراته الحريصة على المكان باحثاً عنها فوجدها على مرمى البصر فاطمأن . تركها لبعض الحرية فقد كان يشعر بالذنب لمعرفته بكمية التضييق الذي تعانيه هذه المخلوقة ذات العينين اللامعتين . أستغرق بعض الوقت ليتحدث عن هموم التجارة وتداعيات السوق والضرائب المفروضة على البضائع المستوردة في ظل أنظمة تتغيير . مرّ الوقت وكان لابد أن يختار معطفاً للصغيرة كي يعود على موعد الغداء وبذهنه موعد الشراب المقوّي الذي يجب أن تتناوله أبنته قبل الطعام بساعة . نظر الى المعاطف وراق له معطف بلون أحمر موشى بورود صغيرة على الأكمام والياقة . لاحظت الطفلة أعجاب أبيها بالمعطف فهزت رأسها موافقة وقام الأب بدفع ثمنه مسروراً ووضع صاحب المحل المعطف في علبة كبيرة وزينها بشريط رفيع من الستان الأحمر . حملت الطفلة العلبة الأكبر منها وحاولت ان تخفي وجهها بها وكان الاب بحاجة لرؤية نظرة الرضى على وجهها فلمح بربق دمعة فلم يكترث لانه يعرف أن هذه الطفلة لاتبكي . ففي يوم كسرت يدها وهي تلعب كانت تحدق بعين الطبيب وهو يجبّر الكسر وتقول له سأصرخ من الألم لا توجعني أكثر . كانت تتحدث فقط دون أن تبكي !

حاول الاب مشفقاً حمل العلبة لكنها أبت لأنها بحاجة لهذا الحاجز لاخفاء الدمع الذي بات يغرق وجهها . خرجت قبله وهو يتابعها بنظره خوفاً عليها من التعثر على السلم الرخامي الأملس ذي الدرجات الخمس .

وطأت بقدمها الصغيرة السلمة الثانية وجلست على حين غرّة ووضعت العلبة بجانبها وانخرطت بالبكاء . كان الموقف مفاجئاً وغريزياً أحتضنها الأب محاولاً أن يفهم ما الذي حدث . بابا هل تعانين من ألم ؟ 
هل يوجعك شيء ؟

 يزداد البكاء والصغيرة تخفي وجهها بيدها وترفض الكلام . خرج صاحب المحل مستفهماً ما حدث والتقت نظرات حيرته مع نظرات الاب الحائر هو الاخر وأصبحت هناك بركة من الحيرة يسبح فيها بجع من علامات الاستفهام .

حمل الرجل الصغيرة الى داخل المحل وأجلسها على مكتبه والأب الملتاع يريد بأي ثمن معرفة ما حدث لها ..

ــ ما بك يا طفلتي . هل أنت جائعة ؟

تهز راسها نفياً . استاذن من الرجل بمكالمة البيت فردت خالتها على الاتصال

ــ هل هناك شيء أغضب طفلتي قبل الخروج ؟

ــ كلا . بل كانت مغتبطة بالخروج وحدثتني أنها تشعر بالحبور لخروجها معك .

يا ألهي ما بها أذن . عاد يستلطفها ويقبلها لتتحدث ويزداد الدمع أنحداراً . شعر بأنفاسه الحائرة تضيق ولاحظت الصغيرة والدها يكاد يبكي . رفعت وجهها اليه وعيناها محمرّة وأشارت بأصبعها الصغير الى معطف ذي لون أصفر بأزرار ذهبية كبيرة . وعلى أكمامه وجيوبه الجانبية أزرار ذهبية أصغر حجما ً .. أهااا أنها ترغب بهذا المعطف لا الذي أخترته أنا !

يا لحماقتي أنها سيدة صغيرة

كيف نسيت أنها تختار لي ربطات عنقي . كيف غاب عن بالي غرامها بالألوان . أشار الاب الى المعطف الأصفر وأسرع الرجل كي يقوم بتغليفه . هزت رأسها بأنها تريده دون علبة !

حملته بحرص واحتضنته وأستنشقت رائحة نسيجه . أختارته بأنفها الذي تصورته لا يخطىء !

تركت والدها يحمل اختياره وحملت هي اختيارها ...
وبقيت تحمل أوزار اختياراتها لما تبقى من عُمر !



 

تعليقات

أحدث أقدم