الحزبية المشتّتة وأزمة التمثيل

مشاهدات



عبد الإله بلقزيز


تمثل ظاهرة «البلقنة الحزبية» للمشهد الانتخابي والتمثيلي في الديمقراطيات الغربية اليوم واحدة من أخطر الظواهر على مستقبل النظام التمثيلي فيه، وعلى الاستقرار السياسي والتداول السلس على السلطة بين القوى بل وعلى طبيعة البرامج السياسية المطبقة ومدى الانسجام الداخلي فيها وهو شرط لفاعليتها وشرعية تمثيل قواها لزمن طويل بُني النظام التمثيلي على مبدأ الحق في التنافس على كسب الرأي العام وثقة القسم الأعظم منه قصد حيازة السلطة برضى الأغلبية الناخبة وتطبيق سياسات معلنة ( في البرامج الانتخابية ) لتنمية الأوضاع الاجتماعية وتعظيم المصالح ولقد كان من مقتضيات هذا التمثيل أن يعبر عن حقيقتين متلازمتين :


أن يكون تمثيلاً اجتماعياً حقيقياً لقوى وطبقات وفئات وشرائح ذات مصالح مادية تحتاج إلى الدفاع عنها أو إلى تعظيمها أو إلى تحصيلها فتمنح ثقتها للقوى السياسية الحاملة مشروع المنافحة عن تلك المصالح وتمحضها التأييد وتقترع لها كي تنقل مشروعها ذاك إلى حيز التحقيق السياسي عبر أجهزة الدولة بما هو مشروع يمثلها ويترجم مطالبها ثم أن تنهض القوى السياسية المتنافسة على تمثيل المجتمع بمهمة صوغ مشروعها السياسي في برامج عمل قابلة للتحقيق المادي وقادرة على مخاطبة مصالح الفئات التي تتوجه إليها . وليس خافياً أن صوغ هذه البرامج يكون مسبوقاً برؤية متكاملة للنظام الاجتماعي والسياسي تلحظ الحاجات الموضوعية والمطالب المشروعة مثلما تلحظ ممكنات التحقيق على النحو الذي تكون فيه البرامج منسجمة مع ذاتها ومنطلقاتها . خلال تجربة تطبيق هذا المنوال التنافسي على تمثيل الجمهور الناخب وقبل دخول القوى الاشتراكية واليسارية إلى ميدان التنافس الانتخابي بعد الحرب العالمية الأولى كان الاستقطاب ينشأ (داخل المعسكر الليبرالي) بين تيارين فيه كبيرين هما : الجمهوري والديمقراطي ( بهذا التعيين أو بتسميات أخرى في كل بلد ) اقترن الأول منهما بالقوى ذات المنزع الوطني المتمسكة بنظام الدولة القائم على مبدأ السيادة الشعبية ومرجعية الإرادة العامة فيما اقترن التيار الديمقراطي بالقوى المدافعة عن الحقوق والحريات . 


وفي كل جولة يكسب فيها فريق من الفريقين المنافسة الانتخابية كانت تتشكل حكومات قوية ذات أغلبية نيابية وقاعدة اجتماعية عريضة، فيما كان برنامجها يتمتع بالوحدة والانسجام تدير السلطة على قاعدته ويحاسبها الشعب على حصيلة تطبيقه في مناسبات الاقتراع اللاحقة . ولم تتغير المعادلة بطروء طارئ جديد هو : دخول القوى الاشتراكية والشيوعية واليسارية إلى حلبة التنافس الديمقراطي الجديد أن استقطاباً سياسياً ثانياً حصل على نحو مختلف عن ذي قبل بين تيارين أو قطبين هما : اليمين بجناحيه الجمهوري والديمقراطي واليسار والجديد أن التيار الديمقراطي المسيحي تعاظم حجماً بعد الحربين العالميتين وأصبح قوة جديدة رئيسية في بعض البلدان (إيطاليا وألمانيا) ولكن من غير أن يغير شيئاً في معادلة اليمين واليسار لكن الاستقطاب هذا بدا حاداً في حقبة الصدام الأيديولوجي والحرب الباردة . وهو اقتضى  في جملة ما اقتضاه  إنشاء تحالفات وجبهات وكتل موحدة داخل معسكري اليمين واليسار في البلدان التي سمحت قوانينها بوجود أحزاب شيوعية ويسارية أو اشتراكية (معظم أوروبا الغربية ما خلا بريطانيا فضلاً عن الولايات المتحدة ) فالتنافس أصبح حاداً وزادت معه الحاجة إلى توحيد القوى ذات المشتركات الفكرية أو السياسية لتعظيم الفرص .


غير أن تعديلاً هائلاً سيطرأ على معادلة اليمين/ اليسار هذه، وسيتبدل معه (بالتبعة) مشهد خريطة التمثيل كلياً في تلك الديمقراطيات سيتحول الاستقطاب من بنية ثنائية متقابلة الحدين إلى بنية ثلاثية ثم رباعية وخماسية يتعسر أحياناً بيان الفروق بين حدودها أو وضع مائز بين خياراتها السياسية هكذا سنصبح على مشهد استقطاب جديد يحوي يميناً ويساراً ووسطاً ثم لن يلبث الوسط ذاك أن يتوزع فروعاً ثلاثة : وسطاً ويمين وسط ويسار وسط ! وسيغدو الناخب في حال من التردد والحيرة أكثر من أي وقت مضى وصوته أقرب ما يكون إلى تعزيز تشتيت التمثيل منه إلى فرزه معظم الديمقراطيات الغربية انتهى اليوم إلى هذه الحال من تشظي خريطة القوى والتمثيل حتى إنه لم يعد يعلم من عساها تكون القوى الحزبية الأساس في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا والنمسا وبلجيكا وإسبانيا .


ها هو النظام التمثيلي في الديمقراطيات الغربية، يدخل  إذن  طور أزمة جديدة عنوانها، هذه المرة، الحزبية المشتتة التي تتولد منها بنية تمثيلية فسيفسائية تجعل تكوين السلطة منها خاضعاً لعمليات قيصرية : تحالفات ضد الطبيعة ترتق الفتوق (التي لا ترتق) بين المختلفين مشرباً ومذهباً.

تعليقات

أحدث أقدم